تفسير قوله تعالى: (واذكر في الكتاب إسماعيل)
قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾ [مريم: ٥٤ - ٥٥].
يقول الله لنبيه: واذكر في كتاب ربك إسماعيل جدك الأعلى ابن إبراهيم عليك وعليهما السلام، وقد خص الله جل جلاله إسماعيل بآيات خاصة ومقتطع خاص؛ لأنه أعظم من إسحاق ويعقوب وأشرف منهما.
فقال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾ [مريم: ٥٤]، فإسماعيل بن إبراهيم أتى به أبوه إبراهيم خليل الرحمن، وذلك لأن أم إسحاق غارت من هاجر فحمله وحملها معه بأمر من الله ووحي إلى مكان زمزم، وكانت الأرض خلاءً في جزيرة العرب، فوضع إبراهيم الوليد وأمه، ولم يكن في الأرض نبع ولا نبت ولا أنيس، لا من أنس ولا حيوان ولا طائر، وأخذ نفسه وعاد.
وإذا بزوجه هاجر تسرع خلفه وتقول: يا رسول الله! إلى من تتركنا؟ فلا يجيبها، فتشتد وتناجي وتزأر خوفاً على طفلها ووليدها، وهو لا يجيب.
وبعد مدة قالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم.
قالت: إذاً: لا يضيعنا.
فمكثت تناغي وليدها أياماً بلا حليب، فبحثت عن الماء فلم تجد، فكان الولد يتضور عطشاً وجوعاً، إذ لا حليب ترضعه ولا ماء يشربه، فتركته وذهبت إلى الصفا والمروة، ابتداءً من الصفا وصعدت على أعلاه، وأخذت تلتف بنفسها يميناً وشمالاً لعلها ترى رجلاً أو حياة سواء من حيوان أو دابة أو طائر فلم تجد، فنزلت وأخذت تسعى إلى المروة وتصعد إلى قمتها وتلتف يميناً وشمالاً، وتبحث في كل الجهات الست لعلها ترى من يؤنسها وتأتنس به، وتأخذ ماءً لوليدها حتى لا يموت عطشاً، وهكذا إلى المرة السابعة.
وكان هذا سنة السعي بين الصفا والمروة شكراً لله أن أحيا الوليد إسماعيل الذي لولا حياته لما كان محمد عليه الصلاة والسلام؛ لأن إسماعيل هو الجد الأعلى له، فلو مات طفلاً لمات محمد ﷺ في صلبه ولم يدر به أحد.
فلما أتمت هاجر من الأشواط سبعاً رأت في المكان الذي فيه ولدها طيراً تحلق، والطير لا يحلق إلا حيث الماء، فجاءت مسرعةً ثائرةً، وإذا بها تجد الماء نابعاً عند رجلي طفلها، وكان الماء خفيفاً قليلاً فأخذت تضمه لبعضه وتقول له: زمزم، أي: اجتمع وتضاءل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا أن هاجر فعلت ذلك لكانت زمزم نهراً جارياً إلى يوم القيامة).
فنزلت وارتوت هي وطفلها، وبعد أيام رأى أقوام الطير يحلق حيث زمزم فقالوا: عهدنا بهذا المكان خراباً يباباً، صحراء لا ماء فيها ولا نسمة، وإذا بهم يجدون هاجر ووليدها إسماعيل، فاستأذنوها بأن ينزلوا معها، فاشترطت عليهم أن الماء ماؤها والأرض أرضها، ولهم أن ينتفعوا بالأرض والماء، وماذا يطلب الإنسان أكثر من ذلك، ولكنها احتاطت لوليدها وسلالته من أن يتغلبوا على الماء وعلى الأرض فيخرجوهم.
فكبر الوليد وشب وأخذ يتردد عليه أبوه إبراهيم ويتعهد حاله، فوجده مرة قد تزوج، وكان قد أرسله الله سبحانه، قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾ [مريم: ٥٤].
فهذا النبي الرسول الجليل أخذ يتعهده أبوه، فجاءه مرة فسأل عن بيته فأشير عليه به، فطرق الباب وخرجت زوجته.
فقال: هل إسماعيل هنا؟ قالت: لا.
قال: أين هو؟ قالت: ذهب ليتصيد ويأتينا برزق اليوم.
قال: كيف طعامكم وشرابكم؟ قالت: في أسوأ حال.
قال: إذا جاء إسماعيل فقولي له: يغير عتبة بيته.
فجاء إسماعيل وكأنه شعر بأن إنساناً زائراً قد جاء، فقال: هل جاء أحد وسأل عني؟ فقالت: نعم.
قال: من؟ قالت: لم يذكر اسمه، ولكن صفته كذا وكذا قال: ما الذي قال لك؟ قالت: قال لي: غير عتبة بيتك.
قال: ذاك أبي رسول الله وخليله إبراهيم، وأنت عتبة بيتي، فقد أمرني بطلاقك فطلقها؛ لأنها لم تكن من الحامدات الشاكرات، فتزوج غيرها.
ومضى وقت وجاء إبراهيم فطرق الباب، فوجد امرأة أخرى، فقال: من أنتِ؟ قالت: زوجة إسماعيل.
قال: كيف حالكم؟ وكيف طعامكم وشرابكم؟ فقالت: نحن في أحسن نعمة، نحمد الله ونشكره ونطلبه المزيد.
قال لها: إذا جاء إسماعيل قولي له: فليثبت عتبة بيته، فجاء إسماعيل وجرى الكلام معها كما كان مع الأولى.
فقال: ذاك أبي خليل الله إبراهيم، وأنت عتبة البيت، فوالدي قد رضي بك وأمرني بتثبيتك وإبقائك.
فأرسل الله إسماعيل إلى قبائل جرهم العربية العاربة، وإسماعيل جد الحجازيين؛ ولذلك يقال عن الحجازيين: العرب المستعربة، فإسماعيل لم يكن أصلاً من العرب، ولكنه جاء على الفطرة لا يعلم كلاماً ولم يسمع اللغة العربيَّة، فنشأ بين العرب العاربة الأصليين، فتعلم لغتهم وفصاحتهم وبلاغتهم، وهكذا كان أولاده من بعده.
فقوله: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ﴾ [مريم: ٥٤] فقد رأى إبراهيم -ورؤى الأنبياء وحي- رؤيا في المنام، فقال: يا إسماعيل! إني أرى في المنام أني أذبحك.
وكان الغلام قد شب وبلغ معه السعي، فقال: يا أبت! افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين، ولن أعصي لك أمراً.
فقد وعد إسماعيل بالصبر وصدق في وعده، وهل هناك وعد أكثر من أن يعد الإنسان برقبته أن تذبح؟! فتنفيذاً للوعد جاء إبراهيم وتله للجبين، أي: أماله لجانبه وأخذ السكين وتله للجبين، وإذا بالله جل جلاله يناديه: ﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [الصافات: ١٠٥] ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات: ١٠٧].
ومن هنا يقول علماء الكلام: السكين والنار والماء والطعام وكل شيء من هذه المعاني تشبع وتروي وتؤثر عندها لا بها، عند الابتداء بها والأثر من الله، والأمر أمر الله بدليل أن هذه السكين لم تذبح ولو أراد الله لها الذبح لذبحت، فكان بذلك صادق الوعد عليه السلام.
ومن ذلك أيضاً لقي مرة صديقاً وعده بشيء، فقال له: انتظرني سآتيك قريباً، فانتظره إسماعيل عليه السلام ثلاثة أيام ولم يأت، ومر صديقه مروراً مصادفاً فوجده فقال: ما زلت في انتظاري؟ قال: ألم تعدني وقلت لي: أنتظرك؟ وقد شققت علي، وحدث هذا لنبينا صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: ﴿وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾ [مريم: ٥٤] كان رسولاً من الله، إذ أمر بالرسالة ليبلغها لجرهم، وأوحي إليه فهو نبي رسول، ونلاحظ أنه ذكر أخاه إسحاق بالنبوءة فقط، فقال: ﴿ووَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا﴾ [مريم: ٤٩]، فلم يصف إسحاق ويعقوب إلا بالنبوءة، فكان إسماعيل أفضل منهما وأشرف منهما.
وأكد هذا النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال: (واصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل) فإسماعيل هو المصطفى المختار المميز من بقية الأنبياء الآخرين.
ولليهود لعنهم الله كتاب يتجولون به في أقطار العالم الإسلامي أسموه التوراة، يشتمون فيه إسماعيل، ويفضلون عليه إسحاق جدهم ويعقوب أباهم المسمى بإسرائيل؛ كذباً على الله وافتراءً.
قال تعالى: ﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾ [مريم: ٥٥]، وكان من خصائصه حرصه على تبليغ الدعوة، فكان لا يأمر بها جرهماً فقط، بل يأمر أهله نساءً وأولاداً، غلماناً وإماءً، بنات وذكوراً.
ويأمرهم كذلك بالزكاة إن وجد عندهم ما تم نصابه، فيزكون من مالهم للفقراء والمساكين، ويزكون معنى لجاههم وقوتهم ونفوذهم، ومما أكرمهم الله به، ومما هم أقدر عليه من غيرهم.
قال تعالى: ﴿وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾ [مريم: ٥٥].
أي: كان رضياً عند الله، وكان عمله مقبولاً مرضياً عنه من صبر وصدق في الوعد، وأمر لأهله بالصلاة والزكاة، وقد فسر الأهل بالأمة والأتباع كلها، فكلهم أهله وأنصاره وأتباع دينه، فكان مثابراً على ذلك ليله ونهاره، لا يكل ولا يمل.