تفسير قوله تعالى: (وإن من شيعته لإبراهيم)
قال تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الصافات: ٨٣ - ٨٧].
وإن من شيعته: أي ممن هو على دينه، وعلى منهاجه، وعلى طريقته، ومن أنصاره، وقرنائه وأمثاله، والقائلين بقوله، والذين هم على مبدئه وهدفه وغايته، وأنبياء الله كلهم كذلك، فكلهم أمروا بتوحيد الله، كلهم أمروا بأن يأمروا الخلق بطاعة الله، والإيمان بما أنزل الله، والإيمان بيوم البعث والنشور، يوم العرض على الله، وبالجنة والنار.
فجاء إبراهيم مجدداً، جاء نبياً رسولاً، ففعل ما فعله نوح من حيث التوحيد والدعوة إلى وحدانية الله وعبادته، فكذلك كان إبراهيم من شيعته، ممن هو على منهاجه، ممن هو على طريقته في الدعوة إلى الله والتحمل والصبر، وكما تحمل نوح من قومه البلاء العظيم والكرب الشديد، ثم نصره الله وأزال كربه، كذلك إبراهيم سيحارب وسيعارض، وسيقذف به في نار لو قذف فيها غابة لاحترقت وصارت رماداً، ولكن الله يأبى إلا أن ينصر رسله، وأن ينصر أنبياءه، وأن تكون العاقبة لهم على أعدائهم.
قال: ﴿وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ﴾ [الصافات: ٨٣].
بين إبراهيم ونوح ألفا سنة وستمائة وأربعون عاماً فيما زعم الكثيرون، ولا يقين في ذلك، إذ الأخبار لا تتم إلا بنص من الله أو حديث صحيح عن رسول الله ﷺ ولا يوجد، وكان ما بين نوح وإبراهيم من الأنبياء هود وصالح، وقد أرسل إبراهيم في أرضه في العراق، وكل أنبياء الله الذين جاءوا بعده ينحدرون من سلالته، فقد ولد ولدين كليهما نبي كريم: إسماعيل ثم إسحاق، فكانت سلالة أنبياء بني إسرائيل من إسحاق، وكان من سلالة إسماعيل سيد البشر على الإطلاق، وإمام الأنبياء، وسيد ولد آدم ﷺ محمد العربي الهاشمي المكي المدني نبينا صلى الله وعليه وعلى آله.
قال تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الصافات: ٨٣ - ٨٤].
أتى إلى الله داعياً بقلبه، أتى بإخلاصه، أتى بيقينه منذ نبئ وأرسل، كان أول المؤمنين من قومه، وأول الدعاة إلى الله من قومه، أخلص العبادة، وأخلص اليقين، وأخلص جميع حياته ليلها ونهارها في السفر والحضر لله، وجاء ربه بقلب سليم من الشرك، سليم من الضغينة ومن الرياء والسمعة، فهو طاهر القلب وسيد الموحدين في عصره، وهو أحد الخمسة من أولي العزم، ولا يعلوه في المقام إلا حفيده محمد صلى الله وعليه وعلى آله.
وقد سئل محمد بن سيرين عن قول الله: ﴿إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الصافات: ٨٤] ما سليم؟ فقال: جاء ربه سليماً من الشرك، سليماً من المخالفة، سليماً من الضغينة، فهو سليم القلب من كل أنواع السوء شركاً وعصياناً ومخالفة، جاء ربه وهو داع إليه، خاضع لجلاله، قائم بين يديه، في كل ما أمره به، جل جلاله وعلا مقامه.
قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ﴾ [الصافات: ٨٥].
قال لقومه: ماذا تعبدون؟! وكانوا يعبدون الأحجار، ويعبدون الأوثان، ويعبدون الأصنام، كأكثر الأولين إلا قلة بينهم، أما أبوه فقد سماه الله في القرآن: آزر، ومضى لنا ببيان وتفصيل: أن آزر عمه والعم أب، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (العم صنو الأب) أي: جزء وشقيق له أي: قسم منه أي: فكما أن هذا أب فهذا أب، وفي لغة العرب كذلك تنادي العم: أباً، وهي لغة مشهورة، وللإمام السيوطي رحمه الله كتاب مستقل أن آزر عم إبراهيم وليس أباه، وقد ذكر في القرآن بأنه أب.
من المعلوم أن إبراهيم عندما دعا عمه إلى الله استنكر ذلك منه: ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ﴾ [مريم: ٤٦]، ثم أخيراً قال له: اهجرني ملياً، قال إبراهيم: ﴿قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾ [مريم: ٤٧]، وبعد ذلك استغفر له، فقال عنه جل جلاله: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ [التوبة: ١١٤].
أي: عندما تبين له أنه كافر ومات على الكفر والضلال تبرأ منه، والذي يتبرأ منه لا يدعى له، ولا يستغفر له، وإنما استغفر له بموعدة وعدها إياها، فقد وعده بأنه سيستغفر له، فلما تبين له أنه مات على الكفر، ومات على الضلال تبرأ منه وترك الاستغفار، لأنه لا فائدة في الاستغفار لمن مات مشركاً: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ [النساء: ٤٨]، سواء دعا له نبي مرسل، أو ملك مقرب، كل ذلك سواء من مات على الشرك فلا ينتظر له إلا العذاب، ولا استغفار له ولا توبة، وقد كان إبراهيم عندما دعا أباه لا يزال في شبابه في سن الأربعين عندما أرسل ونبئ، وعندما جاء إلى أرض الكعبة ومعه ابنه إسماعيل، وقد أتى به طفلاً رضيعاً مع أمه إلى هذه البقاع المقدسة، فعندما أتم البناء حمد الله وشكره وقال: رب اغفر لي ولوالدي.
وهذا في كتاب الله، فقوله: (رب اغفر لي ولوالدي) استغفار لوالديه وما والداه إلا أبوه وأمه، فلو كان الذي ذكره الله أباً حقيقياً لما استغفر له، ومن هنا علمنا بنص الآية أن ذاك ليس أباً؛ لأن الأب قال الله عنه: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ [التوبة: ١١٤]، ونبي الله أكرم من أن يتبين له أن أباه ضال مضل، وأنه مات على الضلال والكفر من أن يستغفر له، وقد تبرأ منه، والمتبرأ منه لا يدعى له، ولا يستغفر له، فإذا وجدناه في أخريات أيامه وعند قرب موته يقول: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ﴾ [نوح: ٢٨]، فهذا يعني: أن آزر لم يكن أباً بل كان عماً، وقد ثبت أن هذا العم قال -لما أنجى الله إبراهيم من نار نمرود قال له هذا العم: لو لم أكن أنا لما أنجيت، وإذا بالشرار من النار يصيب هذا العم فيحترق؛ لأنه ترفع على الله وادعى مقاماً ليس له، وقال عن ابن أخيه إبراهيم: بأنه شارك في وثنية هذا، أو شارك في شركه أنقذ من النار، وإذا بالله الكريم يحرقه بشرارة فضلاً عن كل تلك النار، وبهذا يتأكد أن آزر ليس الأب وإنما هو العم.
قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ﴾ [الصافات: ٨٥ - ٨٦].
الإفك: أقبح أنواع الكذب، أي: أتريدون آلهة غير الله كذباً وزوراً ظاهراً، أي: أتريدون الإفك والكذب، أتريدون آلهة من الأوثان والأصنام والأحجار تتخذونها آلهة دون الله، أهذه إرادة عاقل؟ أهذه إرادة مفكر؟ أهذه إرادة إنسان يعلم أن الموت آتيه يوماً لا محالة.
قال تعالى: ﴿فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الصافات: ٨٧]، أي: فماذا تظنون بعد أن تقبلوا على الله؟ وبعد أن تبعثوا يوم القيامة؟ كيف سيكون جزاؤكم مع الله وقد جئتم إليه وأنتم تعبدون غيره، وتشركون به سواه؟ وهذا استفهام للتقرير والتوبيخ، أي: أيمكن أن يخطر ببالكم أن يقابلكم الله بخير أو رحمة وأنتم قد استنكرتم قوته وعبدتم سواه ممن لم يخلقكم، ولم يرزقكم ولم يعاقبكم، ولم يعطكم؛ أهذا فعل العقلاء؟ قال تعالى: ﴿أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الصافات: ٨٦ - ٨٧].
فما ظنكم بالرب الذي خلقني وخلق عالمي وعالمكم، عالم عصرنا والعالم الذي مضى، والعوالم الآتية، عندما تقبلون عليه، وتعيشون بعد الموت؟ فما الظن الذي يخطر ببالكم؟ والمعنى: أنهم سيلقون اللعن والغضب والجحيم.