تفسير قوله تعالى: (وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين)
قال الله تعالى: ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ﴾ [الصافات: ٩٩ - ١٠١].
لا نزال مع إبراهيم خليل الله والجد الأعلى لنبينا عليه الصلاة والسلام بعد أن نصره الله على أعدائه عندما قذفوه في النار، فجعلها الله برداً وسلاماً عليه، جعلهم الأسفلين، ورد مكرهم في نحرهم، عند ذلك رأى أن البلاد ليست صالحة للمؤمن، وليست صالحة لداعية إلى الله وقد أصروا على قتال وحرب وتهديد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فترك البلاد وهاجر إلى الله، وكان أصل الهجرة ومشروعيتها ما فعله إبراهيم خليل الله، وقصه علينا ربنا جل جلاله.
﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي﴾ [الصافات: ٩٩] أي: إني مهاجر كما ذكر في آيات أخر، فهجر الكفر وبلاد الكافرين وهاجر إلى ربه حيث يجد متسعاً من الأرض بلا ضيق ولا مقاومة ولا صد عن دعوة الله، فذهب مهاجراً.
وقوله: ﴿سَيَهْدِينِ﴾ [الصافات: ٩٩]، أي: سيهدني الطريق المستقيم، وسيهديني للذهاب إلى البلاد التي أدعو فيها إلى ربي دون أن أجد معارضاً ولا صادا، ً وقد قلنا: بأنه ذهب إلى أرض حران، فبعد أن وجد نفسه غريباً ترك موطنه، وترك عشيرته، ونادى ربه متضرعاً: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الصافات: ١٠٠] أي: هب لي ولداً صالحاً يكون منهم، ويكون بينهم يصلح في دينه، ويصلح في دنياه، ويصلح لي باراً مطيعاً، ويصلح لعباد الله الصالحين، فأجابه الله واستجاب دعوته وقال: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ﴾ [الصافات: ١٠١].
ومعنى ذلك: أن زوجته حملت، وأنها بعد الحمل ولدت، فبشره الله به قبل أن يكون، فكان بعد ذلك، وولد بعد ذلك فبشره به غلاماً مولوداً صغيراً رضيعاً، وبشره بأنه سيصبح رجلاً حليماً، والحلم: هو التوؤدة والتأني وعدم التسرع، وهو العقل فيما يهديه ويصلحه في دينه ودنياه، وهو الذي لا يتأثر بكلمة عابرة، ولا يغضب لأي سبب، فهو إذا أوذي حلم، وهو إذا أوذي قابل السيئة بالحسنة لا يغضب، فجعله الله غلاماً حليماً، وسيبشره بعد ذلك بالنبوة والرسالة الخالدة الساندة في سلالته إلى يوم القيامة.
قال ربنا: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ﴾ [الصافات: ١٠٢]، ومعنى ذلك: أنه استجيب دعاؤه وولد له ولد، وتمت البشارة التي بشره بها ربه، والبشرى تكون بخير في أغلب الكلام وأغلب الأحيان، وقد تكون البشرى بشر، ولكنها تكون إلى الهزل والسخرية أقرب.
﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الصافات: ١٠٢].
ولد الولد الذي بشر به، وكبر حتى بلغ مبلغ الرجال الذين يسعون مع آبائهم في معاشهم، يسعون لخدمة دارهم وأهاليهم وأبيهم وأمهم: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ﴾ [الصافات: ١٠٢]، والسعي في الخدمة وفي الاستزادة منه، والصلاح، قالوا: ولقد كان سنه ثلاثة عشر عاماً، وقال بعضهم: كانت سنه تسعة أعوام، وقال ابن عباس: بلغ أن يصلي ويصوم، أي: قد بلغ، فأصبح مكلفاً كما يكلف الرجال، ونحن في الصحاري في الأرض الحارة وهو هنا نشأ، وهناك نبئ، وهناك حدث ما حدث فيما يقصه الله علينا في هذه البلدة المقدسة الطاهرة عند زمزم والكعبة المشرفة، زادها الله تشريفاً وتكريماً، وبلوغ النساء في البلاد الحارة يكون بين التاسعة والعاشرة، وبلوغ الرجال يكون في العادة بين العاشرة والثانية عشرة، وقد حكى التاريخ عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه كان بين أبيه وبينه اثنا عشر عاماً، وتزوج ﷺ السيدة عائشة أم المؤمنين ودخل بها وهي ابنة تسع فكانت بالغة، تصلي وتصوم، وهذا يدفع الكلام من الكثير من أعداء الله وأعداء رسول الله والمسلمين بأنه تزوج طفلة ليست مطيقة بعد، وليس الأمر كذلك، وهؤلاء يقيسون ذلك على أنفسهم وهم يعيشون في أرض باردة لا يكاد الشاب يبلغ إلا بعد أن يصل ثماني عشرة سنة، ولا تكاد تبلغ البنت حتى تتجاوز السادسة عشرة.
﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ﴾ [الصافات: ١٠٢] لما بلغ سن الثالثة عشرة، وكان يصلي ويصوم، وقد بلغ مبلغ الرجال، رأى إبراهيم رؤيا في منامه، ورؤيا الأنبياء وحي، لأن الشيطان لا أثر له على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ولذلك عندما رأى إبراهيم الرؤيا قصها على ولده، وقد بلغ معه السعي، ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى﴾ [الصافات: ١٠٢].
فكر معي ما هو رأيك؟ ماذا ترى؟ هل توافق على هذا؟ ومعنى ذلك: أن ولده هذا كان يعلم أن رؤيا الأنبياء حق، فهو يسأل ولده وهو يعلم معنى هذا الكلام، فأنا قد رأيت فماذا ترى؟ وإبراهيم خليل الله الرحمن لا يريد أن ينفذ الأمر بناءً على مشورة ولده، ولكنه يريد أن يطيب خاطره، ويسمع موافقته، وإلا فرؤياه التي هي أمر إلهي لن يتراجع عنها أبداً.
﴿فَانظُرْ مَاذَا تَرَى﴾ [الصافات: ١٠٢] والرؤية هنا ليست نظر البصر، ولكن نظر الفكر والرأي والبصيرة.
﴿قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ [الصافات: ١٠٢]؛ لأن هذا الوليد اعتبر ذلك أمراً إلهياً مما يدل على فهمه، وعلى إدراكه، وعلى وعيه في مبتدأ العمر.
﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الصافات: ١٠٢].
قال له: افعل ما تؤمر، اذبح فهذا أمر وأنا أطيق ذلك، وأومن به، وعلق ذلك على المشيئة الإلهية لأنه بلاء عظيم، وهو مصيبة شديدة، ومع ذلك خاف أن يعجز عند التنفيذ وعند الذبح ألا يصبر، فقال: ﴿افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الصافات: ١٠٢].
فبمشيئة الله، وبعون الله ستجدني صابراً على تنفيذ هذا الأمر الإلهي.