تفسير قوله تعالى: (ولقد مننا على موسى وهارون)
قال ربنا جل جلاله: ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الصافات: ١١٤ - ١١٨].
بعد أن تكلمنا شارحين لقصص الأنبياء السابقين: نوح وإبراهيم عليهما السلام، فالآن ننتقل لقصة موسى وهارون، وقد مضى ذلك في سورة الأنبياء مفصلاً، والله جل جلاله أعاد ذكرها هنا مختصرة وملخصه؛ ذكرى للمؤمنين، وجزاء لمن صنع كما صنع هؤلاء الأقوام في المكر ومحاربة أوليائه.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ﴾ [الصافات: ١١٤].
يذكر الله جل جلاله إفضاله ومنته وتكرمه على موسى وهارون النبيين الكريمين من أنبياء بني إسرائيل حين بعثهما لفرعون وقومه ليدعواهم إلى عبادة الله الواحد، وترك عبادة الأصنام، وإلى ترك قوم موسى وهارون بأن يرسلهم معهما فيخرجوا من ذل وهوان فرعون وقومه، ويذكر الله هذا ممتناً به على هذين النبيين الكريمين، وعلى قومهما كذلك، فيقول: ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ [الصافات: ١١٤ - ١١٥].
فقد كان من الإفضال والتكريم أن نجى الله موسى وأنقذه، ونجى هارون وأنقذه، ونجى قومهما بني إسرائيل، ونجى الجميع من ذل فرعون وقومه: من استعبادهم، وقتل شبابهم وترك نسائهم، بما لا تكاد تطيقه الجبال من هوانهم عليهم وإذلالهم لهم، فأنجاهم الله وأنقذ النبيين الكريمين وأنقذ قومهما كذلك ونصرهما ونصر قومهما النصر العزيز المؤزر.
فقال ربنا جل جلاله: ﴿وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ﴾ [الصافات: ١١٦] أي: نصر النبيين الكريمين ونصر قومهما من بني إسرائيل، فاستطاعوا بغلبة الله ونصره ومنه أن ينقذوا من ظلم فرعون وقومه، فأنقذوهم مما كانوا فيه من العبودية، ومن الذل والهوان.
وقد قطع بنو إسرائيل بقيادة موسى وهارون أرض مصر إلى سيناء، إلى ما كانوا يرغبون من الوصول إليه، وتبعهم فرعون وجنده فكانوا من المغرقين، والقصة بتمامها مضت ولكن العبرة فيما ذكر الله في هذه الآيات بأن هذا ليس خاصاً بهم، بل هو عام في من عبد الله ووحده ودعاه جل جلاله بأن ينقذه من ذل وقهر القاهرين، وغلبة الغالبين.
وهكذا نصر الله بني إسرائيل بأن تركوا مصر، وأغرق عدوهم فرعون، وورث بنو إسرائيل جميع أمواله، ولكن مع ذلك فإن بني إسرائيل هم بنو إسرائيل في تاريخهم القديم والحديث، فما كادوا ينقذون من فرعون حتى عادوا للوثنية فعبدوا العجل واتبعوا السامري، وكان موسى غائباً لميعاد ربه، وقد جعل لهم السامري عجلاً جسداً له خوار من الحلية والذهب، وجعل من دبره إلى فيه فارغاً ونصبه في مجرى الرياح، فكانت إذا جرت الرياح صوّت، فكان يقول لهم: هذا صوت إلهكم، وهذا إلهكم وإله موسى فنسي، فعوقبوا على ذلك بأن تاهوا في أرض سيناء أربعين عاماً، حتى إن موسى لم يصل إلى القدس، بل مات وهو لا يزال في ضواحيها، وقد رآه النبي عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء أن روحه تصلي في قبره، عند الكثيب الأحمر يقول: (لو كنت حاضراً لأريتكم ذلك).
قال تعالى: (وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ) ثم بعد ذلك أنزل الله عليهما كتابه التوراة المستبين الظاهر النير الواضح في معانيه، البين فيما فيه من عقائد التوحيد ومن أحكام الحلال والحرام، ولكنهم مع ذلك أبوا إلا التبديل والتغيير والتحريف، فغيروا كتاب الله المنزل عليهم، غيره الأتباع المؤمنون الذين نافقوا وكذبوا، فجعلوا من أنفسهم من يعبد العجل، وجعلوا من أنفسهم أبناءً لله، كما قال ربنا جل جلاله حاكياً عنهم بعد أن حرفوا وبدلوا وغيروا، قال: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨]، فقد كذبوا وفجروا بذلك؛ ولذلك قال الله لنبينا: ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ﴾ [المائدة: ١٨] أي: لو كنتم أحباب الله وأبناءه فلم عذبكم؟ ولم خلدكم في النار؟ وكما قال ربنا: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: ٤٨]، فالشرك لا يغفر والكفر لا يغفر، والردة والجحود والخروج عن توحيد الله وعن الإيمان بأنبياء الله ورسله لا يغفر، ولا يغفر لمشرك قط، ولما كانوا كذلك فهم في النار خالدون وحرم الله الجنة على الكافرين.
فقوله: (وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ) أي: التوراة البين الواضح النير.
قوله: (وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي: هدى موسى وهارون للصراط المستقيم، للطريق الذي لا عوج فيه ولا أمت، هداهم بالأقوال كما هداهم بالأفعال، وهداهم ليدعوا غيرهما لذلك، فقد دعا موسى وهارون قومهما للإيمان بالله الواحد وترك عبادة الأوثان، وترك عبادة الأصنام وكانوا في ذلك من الهادين المهديين ومن الدعاة إلى الله قولاً وعملاً وذلك ما امتن الله به عليهما، ويحرض الله المؤمنين بأن يعملوا بعملهما وأن يدعوا دعوتهما؛ ليجازيهم الله بما جازى به هذين النبيين من نصرهما، ومن إنقاذهما من عدوهما، ومن هدايتها إلى الصراط المستقيم.