تفسير قوله تعالى: (فكذبوه فإنهم لمحضرون)
قال تعالى: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ [الصافات: ١٢٧]: كذبوه ولم يؤمنوا به.
فقوله: (فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي: محضرون للعذاب، سيحيون مرة ثانية يوم البعث، ويحاسبون على ما قدمت أيديهم، ويطال حسابهم، ويعذبون في ذلك، ثم يساقون على وجوههم إلى النار وبئس المصير.
قيل: إن إلياس أرسل إلى عشيرته، فآمنوا زمناً وآمن ملكهم، ثم ارتد الملك وارتدت العشيرة، ففر منهم وغاب لمدة أربعين يوماً، ثم عادوا فآمنوا فعاد إليهم ثم ارتدوا، ثم دعا الله أن يخلصه منهم، وأن ينقذه منهم، فقيل له: اركب أي شيء تجده ولا تتهيب، فزعموا أنه رأى فرساً من نار فركبه، فطار به فتحول إنساناً بأجنحة كالملائكة وذهب به إلى السماء، فكان جندياً ملكياً أرضياً سماوياً، وعوض عن يديه بأجنحة من الملائكة، وأنه طال خلوده وتطول حياته إلى ما قبل البعث عندما يفنى الجميع، وزعموا أنه هو والخضر يعيشان في البراري والفيافي، وزعموا أنهما يجتمعان مرة في رمضان في المسجد الحرام، فيشربان من ماء زمزم شربة واحدة تكفيهما لسائر العام، ويلتقيان في موسم الحج عند عرفة.
وزعموا كما زعموا عن الخضر بأن إلياس اجتمع بنبينا عليه الصلاة والسلام، فسلم عليه وعانقه، وأكثر هذه الأخبار إسرائيليات لا تصدق، على أن بعض ذلك تسرب عند أبي عبد الله الحاكم في المستدرك على الصحيحين، وفي سنن البيهقي الكبرى، ولكن الحفاظ قالوا: إن الأسانيد في ذلك غير صحيحة بل هي موضوعة، فلم يصححوا منها شيئاً أبداً.
مع أن الخضر هو نبي من الأنبياء كما هو الصحيح وطالت حياته، واختلفوا في الخضر: هل لا يزال حياً أو قد مات؟ فأكثر المحدثين أنه مات، وأكثر أصحاب الرقائق والآداب أنه حي ولا يزال، وهناك كثير ممن ذكر أنه رآه وأنه اجتمع به، والمحدثون يعتمدون على قول النبي عليه الصلاة والسلام عندما قال لأصحابه وهو بينهم: (كل من على الأرض إلى مائة سنة لا يبقى ممن هو على ظهرها أحد) قالوا: فكان آخر ذلك هو أبو الطفيل عامر بن واثلة، كان وقت قول النبي عليه الصلاة والسلام هذا الحديث ابن عام، ومات في بداية القرن الثاني عند خلافة عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
ومن قال: إنه لا يزال حياً، قالوا: إن النبي يتكلم على من يراه الناس ويراهم، وإلا لأدخلنا الملائكة كذلك على أنهم لا يبقون بعد مائة عام، ولأدخلنا الجن وهم يعمرون كذلك، ونحن لا نجزم أننا اجتمعنا بـ الخضر ولا رأيناه، وإن كان بعض مجالسينا ذكروا أنه ذهب من هنا وجاء من هنا، ولكننا نحن لم نره، فعلم ذلك عند ربي في كتاب.
كذلك إلياس ورد أنه أصبح ملكياً إنسياً ذا أجنحة كالملائكة أرضياً سماوياً، وأكثر هذه الروايات عن كعب الأحبار وعن وهب بن منبه، وعن نوف البكالي وهؤلاء من أصول يهودية، فعندما أسلموا -وبعضهم شك في إسلامهم- ملئوا الكتب شروحاً وتفاسير، بل بعضهم نسب للتوراة ما ليس فيه، واتخذ ذلك سلماً للاختراع والكذب، وقد حرص ابن كثير على أن يترك الإسرائيليات ولا يرويها، فإذا أشار إليها لشهرتها ليكذبها، ومع ذلك جاء من يذكر الإسرائيليات، وهي لا تضر القرآن بشيء؛ لأن تلك الدروس يزعمونها لأنفسهم ولا علاقة للقرآن الكريم بها، والتفاسير مهما كانت مدونة أو منصوصة هي في عهدة أصحابها، إن أصابوا فمن الله، وإن أخطئوا فمن أنفسهم، أقول هذا عن نفسي وأقوله عن أشياخي وعمن سبقهم.
فهي علوم يعلمها الله لمن شاء، فيصيب من يصيب ويخطئ من يخطئ، ولا يتأكد الصواب إلا بوحي أو بإجماع.
فإلياس كان نبياً من الأنبياء عد من الصالحين ورسولاً كريماً، أدى رسالته كما أمر، ثم مات كما مات البشر، أما كونه بقي فتلك روايات إسرائيلية تسللت إلى كتب الحديث، ولكن الحديث أيضاً له أسانيد يروى بها، فأقاويل رسول الله عليه الصلاة والسلام حفظت -ولله الحمد- حفظاً قطعياً يقينياً، فنحن نروي ونقول: حدثنا فلان عن فلان، وقديماً قالوا: من ألف فقد استهدف، فمن أصبح راوياً تؤخذ ترجمته وتحلل عند الأقدمين في حياته: أصادق هو أو كاذب، أمجهول أو معروف، أعالم أو جاهل، أصائب أم يكثر خطؤه وأوهامه، فإن كان شيء من ذلك ينبذ هو وتنبذ جميع رواياته، حتى إن صح شيء منها؛ لاختلاطها بما لا يصح، ويصدر في كتاب كميزان الاعتدال للإمام الذهبي، ولسان الميزان للإمام الحافظ وغيرها ولكن هذين أشهرها، ولسان الميزان في ست مجلدات، وإن كان البعض أدخل لمجرد الكلام فيه، والمحدثون والحفاظ أكدوا وقطعوا بأن هذا الذي قيل في هذا الإمام زور وبهتان ولا حقيقة له ولا برهان عليه، فيكون إنما ذكر ليدافع عما قيل عنه.
والكتاب مفروغ منه، قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩]، فالله قد تعهد بكتابه، ولم يتعهد بالتوراة الإنجيل، ولكن تعهد بحفظ القرآن، وهذه من المعجزات التي أدركناها وقد جئنا بعد الوحي بألف وأربعمائة عام، فكان ما نتلوه هو ما كان يتلوه النبي ﷺ والخلفاء الراشدون والصالحون من المؤمنين، بغير زيادة ولا نقص، لا في حركات ولا في مدود ولا في وقفات ولا في ترتيب سور ولا في حصر آيات، ولا نقول هذا لوحدنا، وإنما يقوله معنا الكفار كذلك يهوداً ونصارى مؤولين ومعطلين، ولو وجدوا شيئاً ينقص من قدره لقالوه، فكل ما قاله الكفار ورجعوا إليه أنه أعانه عليه قوم آخرون وذلك كذب وبهتان، وإلى الآن لم يقل أحد منهم: إنه زيد أو نقص أو بدل أو غير، أو إن القرآن الذي يتلوه الهنود غير الذي يتلوه المغاربة، وغير الذي يتلوه من في جزيرة العرب، لم يقل هذا لا مؤمن ولا كافر.
فقوله تعالى: (فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي: كذبه عشيرته وقومه، ولم يؤمنوا برسالته، فهددهم الله وأنذرهم بأنهم لمحضرون، أي: سيحضرون ويساقون سوقاً إلى عذاب الجحيم وبئس المصير، وستكون عاقبتهم عاقبة الكافرين قبلهم.
قال تعالى: ﴿إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ [الصافات: ١٢٨]، أي: إلا من آمن به على قلتهم، هؤلاء الذين أخلصهم الله لعبادته، وزالت شوائب الشرك والنفاق عنهم.
أو عباد الله (المخلصِين) الذين أخلصوا العبادة والتوحيد لله، بغير نفاق ولا مراءاة ولا تسميع.
وقوله: (إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) استثناء منقطع.