تفسير قوله تعالى: (إنا كذلك نجزي المحسنين)
قال تعالى: ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الصافات: ١٣١ - ١٣٢].
أي: كما قال ربنا عن الأنبياء السابقين قال عن إلياس، ومن فعل فعله، وصبر صبره، ودعا دعوته، وأطاع طاعته جازاه الله بما جازى به إلياس؛ بخلود ذكره مع الخالدين والثناء عليه مع المؤمنين، وبقاء ذكره في الأجيال الآتية إلى يوم القيامة، والثناء الحسن والإشادة الطيبة.
وكذلك يفعل الله، وقد رأينا هذا، فهؤلاء الأئمة مالك والشافعي والشعبي وسفيان الثوري وغيرهم من المجتهدين ليسوا رسلاً ولا أنبياء، ولكنهم كانوا خلفاء رسول الله ﷺ ومحبيه، فدعوا الخلق والبشر إلى نشر العلم والتعلم والطاعة والتمسك بالإيمان، وكانوا من المسلمين المؤمنين، فجوزوا بما جازى الله به الأنبياء السابقين، فترك لهم ذكراً في الصالحين، فخلدوا مع الخالدين، فكلما ذكر واحد منهم يذكر بالثناء والإشادة والترحم، ومن هنا يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).
فهؤلاء الأئمة نشروا العلم وتنقل هذا العلم من تلاميذهم إلى تلاميذهم، ومن مؤلفاتهم إلى القارئين لها والدارسين فيها، وخلدوا بخلود ذلك، فكانوا من المحسنين الذين ترك الله لهم ذكراً في العالمين.
وكما ينص ربنا هنا عن كل نبي من هؤلاء الأنبياء فإنه قال: (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) أي: كذلك إلياس كان من عباد الله المؤمنين بربهم، والمؤمنين برسله وكتبه، والأنبياء يرسلون إلى أنفسهم قبل أن يرسلوا إلى قومهم.
يخبر الله سبحانه نبينا عليه الصلاة والسلام، ويخبرنا معه أن نعطي كل ذي حق حقه، فإذا ذكرنا أنبياء الله احترمناهم وقدسناهم وصلينا عليهم، ولن نترك أحداً يذكرهم بسوء، بل نجعلهم القدوة والأسوة، قال تعالى: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [الأنعام: ٩٠]، وما ذكرهم الله جل جلاله إلا ليكونوا منا مكان الأسوة والقدوة والإمامة، وقد ذكرهم سبحانه تنويهاً بهم، وإشادة لهم؛ وليصلى عليهم، وليدعى لهم في الآخرين، ولا يزال هذا منذ حياتهم إلى عصرنا وإلى ما بعد عصرنا إلى يوم القيامة.
وقد قيل: إن إلياس من بني إسرائيل، وليس ذلك مؤكداً، ولوط ليس من أنبياء بني إسرائيل؛ لأن إسرائيل هو يعقوب، ولوط ابن أخي إبراهيم، وكان في حياته وآمن به، ثم أرسل إلى قبائل سدوم -قبائل في فلسطين- فكان نبياً في حياة عمه إبراهيم ورسولاً.
قال تعالى: (لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي: من المرسلين إلى أقوامهم، وكل الأنبياء السابقين إنما بعثوا إلى عشائر من أقوامهم فقط، فليس منهم نبي عالمي إلا نبينا خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام.
ولذلك فديننا هو الوحيد الذي يوصف بأنه دين العالمين، وأما الأديان الأخرى فهي أديان قومية، وكل ما وصف به في هذا العصر بأن اليهودية ديانة عالمية، والنصرانية كذلك فهو كذب وبهتان، فنكذبه ويكذبه التوراة والإنجيل قبل القرآن ويكذبه النبي عليه الصلاة والسلام، قال عليه الصلاة والسلام: (كان الأنبياء قبلي يبعثون إلى أقوامهم خاصة، وبعثت إلى الناس كافة).
وفي الإنجيل يقول عيسى: أرسلت إلى خراف بني إسرائيل، الخراف الضالة، والقرآن يؤكد هذا: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ﴾ [الصف: ٦]، فعيسى ليس رسولاً إلا إلى بني إسرائيل، ومن آمن به من غير اليهود فقد آمنوا بشيء لم يطلب منهم، ولم يؤمروا به.
وهؤلاء القوم أمر الله نبيه لوطاً بأن يعظهم ويخوفهم وينذرهم، فما زادوا إلا عتواً، حتى بلغ بهم الأمر أن جاء إليه ملائكة على صورة شباب مرد يخبرونه عن أمر الله بأن يترك البلدة، وأنه سيصيبهم جميعاً الخسف من الأرض، والرجم من السماء، وأن يتركهم من الآن فيخرج مع أهله، إلا امرأته فإنها كانت تبلغ قومه عندما يأتيه أحد من هؤلاء الشباب، وكانت كافرة ومجرمة كقومها، فعاقبها الله بعقابهم.