قصة يونس عليه السلام
قال تعالى: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ﴾ [الصافات: ١٣٩ - ١٤٢].
هذه قصة يونس بن متى، وقد مضى بعضها في سورة الأنبياء وسورة يونس، وقال عليه الصلاة والسلام عن يونس: (لا تفضلوني على يونس بن متى) كما في الصحيح.
وبعضهم ذكر بأن متى أبوه والبعض ذكروا أن متى أمه، ولا قطع في ذلك.
ولم قال: لا تفضلوني على يونس بن متى؟ إن نبينا عليه الصلاة والسلام لما عرج به إلى سدرة المنتهى، وتجاوز السماوات السبع، حيث وقف جبريل وتقدم محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وهناك ذكر الله ووحده، وما زاغ البصر وما طغى، وأتى بفريضة الصلاة، فمحمد عليه الصلاة والسلام ذكر الله في أعلى عليين، ويونس ذكره في أسفل السافلين في عمق البحار.
ولكن ذكر الله هو ذكر الله سواء كان في الأعالي أو كان في الأسافل، قدرة الله جل جلاله وإرادته وأمره ونهيه عم الكون كله، وكما قال ربنا: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ﴾ [الزخرف: ٨٤]، وما أحلى كون يونس بن متى ذكر الله في قعر البحار وكون النبي ﷺ ذكره في سدرة المنتهى الذكر ذكر النبوة، والرسالة الرسالة، والنبي محمد هو أفضل الخلق أنبياء ومرسلين، ملائكة وجناً وآدميين، وقد قال تعالى في هذا المعنى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٥٣]، مثل موسى: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ [البقرة: ٢٥٣]، وأجمعوا على أن الذي رفعه الدرجات هو محمد صلى الله عليه وعلى آله، وهو ما أكده النبي وأكده القرآن بذكر حديث الشفاعة في اليوم المشهود العظيم، يوم يطلب من الأنبياء كلهم من آدم إلى عيسى الشفاعة، ويقول كل واحد منهم: نفسي نفسي! اذهبوا إلى عيسى اذهبوا إلى محمد، فيأتون إلى محمد صلى الله عليه وعلى آله، فيقول: أنا لها أنا لها.
قال تعالى: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ [الصافات: ١٣٩ - ١٤٠].
يونس كذلك زعموا بأنه من أنبياء بني إسرائيل من سلالة هارون، ولا تأكيد على ذلك من آية ولا من حديث، هو نبي من أنبياء الله، أرسله الله لأهل نينوى في أرض العراق، أرسله كما سيقول: ﴿إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ﴾ [الصافات: ١٤٧] فيزيدون ببضع آلاف، فكان يونس نبيهم ورسولهم.
قال تعالى: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ [الصافات: ١٣٩ - ١٤٠].
أي: إذ فر وأبق عن ربه، ويقال: آبق للعبد عندما يفر عن سيده، وقد فر يونس عن سيده وربه جل جلاله.
قوله: ﴿إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ أي: لاذ مسرعاً إلى الفلك أي: السفينة.
قال تعالى: ﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾ [الصافات: ١٤١].
ركب السفينة، وإذا بالسفينة تتلاعب بها الأمواج، وكادت أن تغرق، فقال ربان السفينة: السفينة تحمل أكثر من قدرها، وأكثر مما ينبغي أن تحمل، لابد أن نرمي بعضكم في البحر لينجو البقية، والمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، فأخذوا يقرعون بينهم، فتخرج القرعة على يونس بن متى.
يقول الله جل جلاله في الآيات السابقة: ﴿فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [يونس: ٩٨].
يونس أرسل إلى مائة ألف من سكان نينوى كفروا به، وجحدوا دينه، ورفضوا رسالته، فأنذرهم ثلاثة أيام إن لم يؤمنوا سيدمر الله عليهم الأرض، ويفعل بهم كما فعل بقوم لوط، فصبر اليوم الأول، واليوم الثاني، وبداية اليوم الثالث قبل تمامه تركهم وذهب، فإذا به يسمع أن قومه لم يهلكوا ولم يدمروا، فغضب وذهب فاراً إلى السفينة، ليترك البلاد، والسبب في رفع العذاب عنهم أنهم اجتمعوا جميعاً في اليوم الثالث وجمعوا حيواناتهم، وفصلوا الأولاد عن الأمهات، وصغار الدواب عن كبارها، فخرجوا إلى الصحراء، ورفعوا أيديهم يدعون الله، يا ألله! نحن نازلون بك، كافر بكل شريك سواك، لا نؤمن إلا بك، عدنا عن كفرنا، ورجعنا إليك تائبين مستغفرين، فاغفر لنا ذنوبنا، فالله عفا عنهم وتاب عليهم وعاشوا بعد ذلك.
وإذا بيونس لما سمع الخبر أنهم نجوا، ولم يسمع أنهم دعوا ولا أنهم تابوا، فقال: قد كذبني ربي، وأخجلني أمام قبيلتي، أمام قوم ضلوا وأضلوا وأشركوا، ففر هارباً من الله إلى أين؟ هل هناك فرار من الله؟ فوجد سفينة على البحر فركبها، فإذا بالعقوبة تأتيه في البحر، السفينة دخلت داخل البحر وتلاطمت الأمواج، وكادت أن تغرق، وإذا بربان السفينة يقول: السفينة مثقلة بأكثر مما يلزم، لابد من أن يرمى أحدكم في البحر أو جماعة، قالوا: إذاً نعمل قرعة، قال تعالى: ﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾ [الصافات: ١٤١] أي: قارع.
والقرعة أن تأتي بسهام فتقول: هذه لفلان وهذه على فلان، فمن خرج سهمه فإما أن يكون من الهالكين أو يكون من الباقين في السفينة، فهم جعلوا قرعة، فمن وقعت عليه القرعة يرمى في البحر، فعندما ساهموا خرجت القرعة على يونس، فقام ربان السفينة وركابهم، وقالوا: لا يرمى يونس، فأعادوها ثانية، فخرجت القرعة عليه، قالوا: لا يرمى يونس، فخرجت الثالثة، فقذف يونس نفسه في البحر، وينتظر أن ينقذوه، وإذا بالله يأمر حوتاً كبيراً من حوت البحر، فيقف إلى جانب السفينة؛ فلما رمى نفسه إذا بالحوت يلتقمه.
وقال الله في الحوت: جعلتك مسكناً له، لا تهشم له عظماً، ولا تأكل له لحماً، فذهب به إلى قعر البحار.
قال تعالى: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ [الصافات: ١٣٩ - ١٤٠]، هرب من ربه إلى السفينة فساهم، ولبلاغة القرآن وفصاحته يحذف الكلام المقدر، فلم يقل: فتساهموا وتنازعوا وقال الربان، ولكن يفهم من الكلام ذلك، أن السفينة كانت موقرة ومشحونة بأكثر من اللازم (فساهم) أي: كانت بالسهام والقرعة، والقرعة لا تزال في شريعتنا المحمدية، فقد كان ﷺ إذا أراد سفراً جعل قرعة بين نسائه من التي تخرج معه، ومرة أوصى رجل بعتق عبيده الستة ولم يكن يملك سواهم، والوصية لا تجوز بأكثر من الثلث، فأقرع النبي ﷺ بين الستة، فاسترق أربعة، وأعتق اثنين، وقد استعمل القرعة مرات عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: ((فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ)) أي: من الذين قهروا وغلبوا، فقذف نفسه في البحر، فتلقاه هذا الحوت.
قال الله: ﴿فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الصافات: ١٤٣ - ١٤٤].
أي فلولا أن يونس عندما شعر بالحياة بعد أن ظن أنه مات، وإذا به يحرك يده فوجدها تتحرك، ويحرك رجله وإذا بها تتحرك، فقال: إذاً أنا حي- صار يضرع إلى الله ويناجي ربه، وذلك ما قاله الله في آيات سابقة: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٧ - ٨٨] شعر بأنه حي في داخل الحوت، فنادى في الظلمات، وما هي الظلمات؟ ظلمات الليل، وظلمات بطن الحوت، وظلمات قعر البحر، فهي ظلمات ثلاث، عندما شعر بالحياة نادى وضرع إلى الله.


الصفحة التالية
Icon