تفسير قوله تعالى: (وإن يونس لمن المرسلين)
قال الله جل جلاله: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الصافات: ١٣٩ - ١٤٤].
يقول ربنا في قصة يونس: وإن يونس كذلك من المرسلين، فيؤكد ذلك بلام الابتداء للتأكيد، وقد أرسل إلى قرية نينوى في أرض العراق، إلى مائة ألف أو يزيدون كما يقول ربنا، وقد آمنت به هذه العشائر بعد أن تركها مغضباً، ولم يشعر بذلك حتى ذهب إلى السفينة ليتركهم ويغيب عنهم.
قال تعالى: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ [الصافات: ١٣٩ - ١٤٠] أي: إذ فر من قومه إلى الفلك المشحون، والفلك: سفينة البحر، وهي لفظة تدل على المفرد وعلى المثنى وعلى الجمع، تقول عن السفن: فلك، وعن السفينة الواحدة: فلك، وعن السفينتين: فلك، فإذا أردت أن تميز مفرداً عن جماعة فتغير اللفظ وتقول: سفينة وسفينتان وسفن.
قال تعالى: ﴿إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا﴾ [الأنبياء: ٨٧] أي: إذ فر من قومه، ولم فر من قومه؟ لقد بقي بينهم شهراً وهو يدعوهم إلى الإسلام وهم يأبون إلا الكفر، ويأبون إلا الشرك، فأنذرهم وتهددهم أنهم بعد ثلاثة أيام سيهلكون لا محالة، فانتظر اليوم الأول وانتظر اليوم الثاني وانتظر الثالث في بدايته، وقبل تمام اليوم الثالث ذهب غاضباً عليهم فاراً منهم، فذهب إلى شاطئ البحر الأخضر -كما قالوا- فوجد سفينة فركبها.
قال تعالى: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ [الصافات: ١٣٩ - ١٤٠] أي: المثقل الذي يحمل أكثر مما يجب، الذي أثقل بالراكبين وبسلعهم.
﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾ [الصافات: ١٤١] فركب السفينة فلما كانت في عرض البحار وبين الأمواج تتلاطم صاح ربانها بأنها توشك على الغرق، وأنها تحمل أكثر مما يلزم، ولابد أن يلقي ببعض الركاب وإلا ضاع الكل وغرقت السفينة بهم، فقال الربان: لابد من المساهمة ومن القرعة.
فأتوا بالسهام: وهي جمع سهم.
والقرعة: أن يؤتى بهذه السهام فتكتب عليها الأسماء، فيحمل كل واحد منهم سهماً، فمن خرج اسمه وجبت عليه القرعة، فقالوا: لابد من إغراق واحد.
فضربوا السهام، وإذا بالسهم يخرج ليونس، فرفض الربان وأهل السفينة أن يلقوه في البحر؛ فهم يعرفونه وكان مشهوراً بينهم، فأعادوا القرعة فخرجت عليه ثانية فامتنعوا، وفي الثالثة لم ينتظر حتى يمتنعوا وإنما حمل نفسه ورمى بها في البحر، وإذا بالله الكريم يأمر نوناً كبيراً أي: حوتاً فيلتقطه ويلتقمه فيبتلعه في بطنه، ويأمر الحوت بأنه ليس له طعام، ولكنه مقيم إلى حين، وأمره بألا يكسر له عظماً وبألا يمضغ له لحماً، والحوت عبد الله فاستجاب لأمر الله.
قال تعالى: ((فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ))، وكان ربان السفينة يقول قبل ذلك: إن في السفينة لآبقاً، إن فيها لفاراً من مولاه وسيده، وإذا بيونس يقول: أنا الفار من ربه، أنا الهارب منه، فيقولون له: لا يا نبي الله! أنت النبي الصالح الصديق، ومع ذلك خرجت القرعة عليه أولاً وثانياً وثالثاً، فقذف نفسه في البحر، فالتقمه الحوت وبقي في بطنه زمناً.
قال تعالى: ((فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ)) أخذه بلقمة واحدة، وكان الحوت كبيراً جداً، وذهب يطوف به في البحار، وإذا بيونس يشعر بأن يده تحركت، وأن رجله تحركت، فقال: أأنا حي؟ وإذا به يجد نفسه حياً، فاستغرب من ذلك.
قال تعالى: ﴿فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ﴾، أي: ارتكب ما يلام عليه، وهو أنه غضب على قومه فما كان ينبغي له ذلك، بل كان ينبغي أن ينتظر تمام الثلاثة أيام، وبعد ذلك ينظر في أمره وأمرهم، ولكنه غضب وفر، فما تركه الله جل جلاله إلا بعد أن أدبه، فأغرقه في البحر نتيجة قرعة ومساهمة، والقرعة كذلك مشروعة في ديننا الإسلامي، ولكن ليس على هذه الطريقة، فقد كان ﷺ إذا أراد غزاة وأراد أن تخرج معه بعض نسائه من أمهات المؤمنين يقارع بينهن، ومن خرج عليها السهم أخذها معه، وأوصى مرة رجل بجميع ماله بعد موته، وكان ماله بعد أن مات ستة أعبد فأخبر بذلك عليه الصلاة والسلام، فأقرع بينهم وأعتق اثنين.
ولا تكون القرعة في إلقاء الإنسان في البحر، وإنما كانت جائزة في دين يونس، فلعل هذا شيئاً كان خاصاً بيونس تأديباً من الله جل جلاله وتربية له؛ لكي يصبر على دعوة قومه ولا يقنط ولا يكل ولا يمل.
قال تعالى: ﴿فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الصافات: ١٤٢ - ١٤٤].
فالله هو الذي يعاقب ويغفر، يعفو ويصفح، يعطي ويمنع، يقول: لولا أنه سبح الله ومجد الله ونزه الله وهو في بطن الحوت لبقي إلى يوم البعث، ولجعل له قبراً أبد الآبدين، ولبعث من بطنه، ولكن يونس ما إن شعر بأنه حي حتى أخذ يسبح الله، ويستغفر الله، ويتوب إلى الله: ﴿فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ﴾ أي: قبل أن يقذف في البحر، وقبل أن يلتقمه الحوت، فهو كان في حياته عابداً لله مصلياً مسبحاً ممجداً معظماً، فهذا من باب قول النبي عليه الصلاة والسلام: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة).
فالمؤمن العابد ينبغي أن يكون مع الله في الرخاء كما يكون في الشدة، أما أن يكون عند الراحة تاركاً للعبادة وللصلاة وللصيام وللتسبيح والتمجيد حتى إذا ابتلي بالشدة ذكر ربه وأخذ يقول: يا رب! فهذا متلاعب مخادع.
وقالوا: إن الملائكة سمعت صوتاً بعيداً من أرض غريبة، فقالوا: يا ربنا! إننا نسمع صوتاً بعيداً من أرض غريبة، فمن هو يا ربنا! قال: ألا تعرفونه؟ قالوا: لا، قال: هو عبدي يونس، قد غرق والتقمه الحوت، قالوا: يا ربنا! إننا نشفع فيه، فطالما وصلك من عبادته ومن تسبيحه ومن ذكره ومن عبادته في ساعة الرخاء فاقبل دعاءه واقبل تسبيحه وهو في هذه الشدة فقبل الله شفاعة ملائكته فيه.
وهناك آية فسرت هذا التسبيح وبينته ووضحته، قال ربنا جل جلاله: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٧ - ٨٨].
والنون، اسم يطلق على الحيتان، فبعدما ازدرده الحوت أخذ ينادي في الظلمات ويتضرع إلى الله وينادي ربه، وكانت الظلمات ثلاثاً: ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت: ((فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ)) لا إله سواك يا رب! ((سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)) يسبحه وينزهه ويمجده، أنت الموصوف بكل كمال، والمنزه عن كل نقص، أعترف بجرمي وظلمي، يقول الله: ((فَاسْتَجَبْنَا لَهُ)) أي: أجبنا دعوته وأزلنا غمه، وأخرجناه من باطن الحوت، ونبذناه من اليم إلى البر.
قال ربنا: ((وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ))، وليس هذا خاصاً بيونس، وهذه هي ثمرة القصص القرآنية: لتتخذ أسوة وقدوة وليعمل الإنسان بعمله، حتى إذا فعلوا ما يلامون عليه فينبغي لهم أن يستغفروا الله كما استغفر يونس عليه السلام، ليكرمهم الله وينقذهم مما هم فيه من الكرب والمحن، ولذلك قال: ((وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)).
وهذا الذي قاله يونس وهو في بطن الحوت ورد عن غير واحد من الصحابة في الصحيحين والسنن: أن من دعا الله تعالى بهذا الدعاء -دعاء يونس- في قعر البحر في باطن الحوت لا ترد له دعوة، وأن هذا هو اسم الله الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب.
ومن مثيلات هذه القصة: قصة أولئك الثلاثة أيضاً الذين قص رسول الله ﷺ قصتهم علينا فقال: (كان فيمن مضى قبلكم ثلاثة من الناس نزلت بهم أمطار فلجئوا إلى غار في جبل، فانحدرت عليهم صخرة فأطبقت الغار، فاجتمع الثلاثة وقالوا: ما بقي لنا الآن إلا الرجوع إلى الله، فدعا كل واحد منهم بأخلص عمل عمله تجاه ربه، وفي كل دعاء تنزاح الصخرة قليلاً حتى انفرجت وخرجوا يمشون).