تفسير قوله تعالى: (وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً)
يقول تعالى: ﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ [الصافات: ١٥٨ - ١٦٠].
(وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً) هذه طائفة أخرى من الكذبة، فقد سُئلوا عندما قالوا: إن الملائكة بنات الله، فقيل لهم: ومن أمهم؟ قالوا: أخذ من بنات كبار الجن، فالجن أصهاره، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا﴾ [الصافات: ١٥٨] والجنة: جمع الجن.
وزعم أقوام أن معنى قوله: (الجنة) أي: الملائكة؛ لأن الجن من الاجتنان، وهو التستر، فهم لا يظهرون على البشر، وهم لا يعرفون إلا بالسماع والرواية، فهم جن بالنسبة للبشر، أي: مستورون.
وقد سأل أبو بكر رضي الله عنه بعض الضالين، وقال لهم: إن كان لله بنات وهم الملائكة، فمن أمهم؟ قالوا: أخذ من سيدات الجن، تعالى الله عما قالوا علوا كبيراً، ولولا أن الله ذكر هذا في كتابه لما أعدناه ولما نطقنا به، ولكن القرآن لقوة دليله وقوة برهانه، وفرضيته على الخلق بالمنطق والبرهان فإنه يقول ويذكر كل ما قاله الكافرون.
والنصارى جعلت عيسى ابن الله، ومريم صاحبة الله، واليهود: جعلوا العزير ابن الله، وعبدوا العجل شريكاً مع الله، وآخرون وآخرون من مشارق الأرض ومغاربها فالبراهمة والمجوس وغيرهم.
قال تعالى: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ [الأعراف: ١٧٩]، فالشيء الذي خلقه الله للإنسان وشرفه على الخليقة وملكه به على الأرض هو ملكه لعقله ولقلبه ولوعيه ولبصره ولسمعه، فإن كان هذا البصر لا يبصر، وهذا القلب لا يفقه، وهذه الأذن لا تسمع فهم دواب، بل هم أقبح أنواع الدواب، بل قد تكون الدواب أشرف منهم.
ولذلك من سوى الإنسان المسلم حيوان أعجمي حتى وإن وصف بأعظم الصفات من ملك وعلم، ورئاسة وقوة وفلسفة وما إلى ذلك من الهراء والباطل؛ لأن الذي ينكر موجد نفسه وموجد هذا الخلق يكون إنساناً لا عقل له، ويكون دابة تمشي على رجلين، وعوضاً عن أن يحمل اسم دابة حمل اسم إنسان خطأً.
﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ [الصافات: ١٥٨]، يقول الله عن هؤلاء: إن كفرهم أصبح من كفر الجن ومن كفر إبليس؛ لأن إبليس وجنده من الجن يعلمون: أن الله قد أنذر إبليس اليوم الأول عندما تكبر على الله وامتنع من أن يسجد لآدم.
﴿إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ [الصافات: ١٥٨] أي: محضرون إلى العذاب، وإلى جنهم، يسحبون إليها على وجوههم، وعلى جباههم.
﴿سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الصافات: ١٥٩]، يسبح الله نفسه، ويمجد نفسه، وقد سبح نفسه بعد ذكر انتقاص الكافرين له بأن قالوا: إن بينه وبين الجنة نسباً، أي: سبحان الله، ننزه الله عن هذا، ونمجده عن هذا، ونخذل ونلعن قائليه ونجعلهم من الكفرة الذين هم خالدون في النار أبد الآبدين، ودهر الداهرين.
قال ربنا: ﴿إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ [الصافات: ١٦٠]، هذا استثناء من المحضرين إلى النار.
فـ ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ﴾ [الصافات: ١٥٩] جملة اعتراضية ذكرت للتعظيم وللتمجيد، وهي كلمة ذكرت فرادى.
﴿إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ [الصافات: ١٦٠] إلا عباد الله من الجن فإن فيهم مؤمناً وفيهم كافراً أيضاً، وسورة الجن في القرآن معلومة، ومسجد الجن في هذه البلدة المقدسة معلوم، وفيه كان الوحي، وفيه نزلت السورة: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا﴾ [الجن: ١] فآمنوا وعاشوا مؤمنين، كالإنس.
قال ربنا جل جلاله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦]، فخلق الجن للعبادة، وخلق الإنس للعبادة، فكلاهما عابدون وموحدون ومؤمنون، فالله قال عن الجن: ﴿وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ [الصافات: ١٥٨]، يعلمون أنهم محضرون إلى النار، وأنهم يساقون إليها قهراً وجبراً إلا المؤمن منهم، وكما قال: ﴿إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ [الصافات: ١٦٠] أي: المخلصين لله، الذين أزال شوائب الكفر منهم.
وقرئ في الروايات السبع (مخلصين) أي أخلصوا عبادتهم ودينهم وطاعتهم لله.