تفسير قوله تعالى: (وإن كانوا ليقولون)
﴿وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأَوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [الصافات: ١٦٧ - ١٧٠].
كان العرب يقولون: لو أنزل علينا نبي لكنا عابدين مخلصين مطيعين، وقال الذين كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم: لو أن عندنا ذكراً من الأولين، ولو نزل علينا ذكر، ولو نزل علينا رسول، أو كتاب يأتينا بأخبار الأولين، أو بما كان عليه الأولون أقوام نوح وعاد وصالح وأنبياء بني إسرائيل.
﴿لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ [الصافات: ١٦٩]، أي: لعبدنا الله عبادة خالصة، ولأخلصنا العبادة له، ولوحدناه ولتركنا الشركاء والأعوان وما وجدنا عليه آباءنا.
فيقول الله مكذباً لهم: ﴿فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [الصافات: ١٧٠].
أي: فكفروا بالذكر لما جاءهم، والذكر هو: رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقرآن الكريم، فقد جاءهم محمد ﷺ فكفروا به، وكذبوا ما كانوا يزعمونه قبل، وأنزل عليهم الكتاب وهو القرآن الكريم، ومع ذلك كذبوا به، وقالوا عنه: ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ [النحل: ١٠٣]، وقالوا عنه كذباً: ﴿وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ﴾ [الفرقان: ٤]، وهم يعلمون أن محمداً ﷺ عاش بينهم أربعين عاماً لم يقرأ في كتاب، ولم يخط بقلم، وكان صادقاً مصدقاً، وكان الأمين المؤتمن، فلم يعلموا عليه كذباً وتبعات، وبعد أن بلغ الأربعين ودخل في سن الرجولة، بل بداية الكهولة تقريباً وهو لم يكذب على الناس كذبة واحدة، أيكذب على الله؟! ولكنها عقول ذاهبة ضائعة، فزالت منهم عقولهم قبل أن تذهب أديانهم.
فعندما جاءهم ما كانوا يتمنون وما كانوا يرجعون إذا بهم بعد هذا يكذبونه ويكذبون بالذكر لما جاءهم.
﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [الصافات: ١٧٠] فتهددهم الله وأنذرهم بأنهم سيعلمون نتيجة كذبهم، وسيعلمون عاقبة أمرهم، جزاء وفاقاً لتكذيبهم لكتاب الله، ولرسول الله، ولإصرارهم على الشرك والكفر.
﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصافات: ١٧١ - ١٧٣].
كلمة الله هي: أمره ونهيه، فإذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، وكان الكون من الله قوله.
وهو الذي كتبه وقدره وسبق في علمه وفي قضائه وفي اللوح المحفوظ: أن الأنبياء والرسل هم المنصورون، فينصرهم الله على أعدائهم، ويذل الله أعداءهم، تكون العاقبة لهم.
﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ﴾ [الصافات: ١٧١]، فمهما عارضوهم أو غالطوهم ومهما اغتم الصالحون وكربوا من أجلهم، فإن العاقبة والنصر في النهاية لهم، وقد قال الحسن البصري سيد التابعين: ما قتل رسول قط.
وقد قتل أنبياء -قتلهم اليهود- لم يذكر الله أسماءهم، ولكن عيسى الرسول لم يقتلوه، وقد زعموا ذلك ولكن الله كذبهم بقوله: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ [النساء: ١٥٧].
فسبق في علم الله وفي اللوح المحفوظ: أن أنبياءه ورسله هم المنصورون مهما حوربوا ومهما قوتلوا، فإنهم في النهاية سيكون النصر لهم.
ونحن نرى هذا في السيرة النبوية العطرة، فطالما لقي منهم النبي ﷺ الشدائد، وقالوا عنه ما قالوا، وقاطعوه هجروا قوله وبيعته ومعاملته، وأذلوا قومه، وقتلوا من قتلوا، ولكن النهاية كانت له، فانتصر عليهم نصراً عزيزاً مؤزراً، فخرج من مكة عن غير رضا منه ثم عاد إليها وهو العزيز المظفر المنتصر، عاد إليها وهو يقول: (الحمد لله الذي أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)، فهو يرجع كل شيء لربه، وهكذا كانت حال المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو داخل مكة بعد سنوات من الهجران والمقاطعة من الكفار، ومن المعرضين عنه.


الصفحة التالية
Icon