تفسير قوله تعالى: (فتول عنهم حتى حين)
يقول الله له: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِين ٍ * وَأَبْصِرْهُم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾ [الصافات: ١٧٤ - ١٧٥].
أي: فأعرض عن هؤلاء الذين واجهوك وحاربوك، وقالوا عن رسالتك، وقالوا عن الكتاب الذي أنزل عليك ما قالوه من الكذب، ومن الإفك، ومن البهتان، أعرض عن هؤلاء، تولّ عنهم (حتى حين) أي: إلى زمن لاحق، إلى نصرك المؤزر عليهم كما حدث في غزوة بدر.
(إلى حين) أي: حين هلاكهم، وأسرهم، وموتهم، وإراحة الله لك منهم ومن وجودهم، وكان هذا قبل فرض القتال، ولا ننسى أن السورة مكية، والحرب والقتال لم يشرع بعد في مكة، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه: (صبراً آل ياسر! إن موعدكم الجنة)، فقد كانوا يربون على المقاومة، يلحون على الكفاح والمحاربة والنبي عليه الصلاة والسلام يقول لهم: صبراً صبراً.
وهذا مما يؤكد أن الإسلام انتشر باللسان وانتشر بالدليل والبرهان، لا كما زعم الكفرة الجاحدون، ولا كما زعم الجهلة من أفراخهم وتلاميذهم، والدارسين عليهم، وكما قال زعيم من زعماء الكفر -والحق ما شهدت به الأعداء- وكان من المنصفين: من زعم بأن محمداً نشر إسلامه بالسيف فقد كذب.
فلم يخرج بين الأمم والشعوب والسيف بيده يقتل هذا ويؤدب هذا والناس مستسلمون له، ولم يكن هذا من طبيعة حياته، ولم يذكر هذا في سير الأنبياء، ولم يذكر هذا عن قادة الأفكار والآراء والرسالات، هذا كذب عقلاً وواقعاً، فقد عاش النبي عليه الصلاة والسلام في مكة المكرمة ثلاثة عشر عاماً، لم يحمل سيفاً ولا عصاً، بل كان يقاوم ولا يقاوم، ويقاوم أصحابه ولا يقاومونه، هجروه وقاطعوه ثلاث سنوات متتالية، حتى كان أصحابه يأكلون ورق الشجر.
شتموا وسبوا، لعنوا وضربوا بالحجارة، كذبوا وتآمروا، قتلوا وعذبوا، حتى قتلوا سمية تحت السياط في شدة حر مكة، ومع ذلك يمرون على عمار وعلى أبيه ياسر، وعلى أمه سمية وهم يعذبون ليرتدوا عن دينهم، وتأبى أم عمار، ويمر على بلال وهو يعذب، يقولون له: أشرك بالله واكفر بمحمد، فلا يقول إلا: أحد أحد! وظفر مسيلمة برسول رسول الله فكان يقول له: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع، فيقول له: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ فيقول: نعم، فقال له: تجيب عندما تسمع محمداً وتصم أذنك عن سماعي فقتله.
فرسول الله ﷺ والرسل أجمعون نشروا دينهم بالحجة والبيان قبل السيف والسنان.