تفسير قوله تعالى: (خلق السماوات والأرض بالحق)
﴿خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ﴾ [الزمر: ٥].
قال تعالى: ﴿خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ [الزمر: ٥] أي: أنزل الكتاب بالحق، وأمر العباد بأن يعبدوه بحق، وخلق السماوات والأرض بالحق، لم يخلقها باطلاً ولم يخلقها عبثاً.
قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦].
خلق السماوات ومن فيها ليعبدوه جل جلاله، وخلق الأرض ومن عليها ليعبدوه جل جلاله، وكما قال نبينا صلوات الله وسلامه عليه: (أطت السماء وحق لها أن تئط - صوتت - ما من موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو ساجد وهو يقول: سبوح قدوس رب الملائكة والروح).
وكذلك عباد الله المطيعون هم في عبادة دائمة، في صلاة وصيام وزكاة وحج وذكر وتلاوة.
والعبد المؤمن في عبادة مستمرة حتى في المباحات، يكون عابداً وهو نائم، ويكون عابداً وهو يأكل، وذلك إذا فعل المباحات بنية العبادة والعون عليها، وليتفرغ ويزداد نشاطاً للعبادة فيكون بذلك عابداً.
والنبي عليه الصلاة والسلام جعل في جماع الرجل لزوجه أجراً وثواباً، فقد قيل له: (أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أفرأيتم لو وضعها في حرام أيكون عليه وزر؟ قالوا: نعم، قال: كذلك إذا وضعها في حلال كان له فيه أجر).
فانتقاله من الحرام إلى الحلال هي عبادة في حد ذاتها؛ لأنه يتزوج ليحصن نفسه ويبتعد عن الإغراء وتزيين الشيطان، كذلك أكله وشرابه، وراحته ونومه وتنقله في أرض الله وبين خلق الله عبادة.
وعندما يفكر في خلق الله ويكثر من ذكر الله فهو في عبادة.
قال تعالى: ﴿خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ﴾ [الزمر: ٥].
يخبر ربنا معلماً أولئك الذين أشركوا به ومثبتاً لقلوب المؤمنين إلى يوم لقائه بأنه خلق السماوات والأرض بالحق.
قال تعالى: ﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ﴾ [الزمر: ٥] أي يغشي الليل النهار ويغشي النهار الليل، ويزيد هذا وينقص هذا، يزيد النهار في الصيف وينقص في الشتاء، وأقل النقص تسع ساعات، وأكثر الزيادة خمس عشرة ساعة.
فقوله: ﴿يُكَوِّرُ﴾ [الزمر: ٥] من التكوير، عندما يكور الإنسان العمامة على رأسه، ومعنى ذلك: أن الأرض كروية، بمعنى: أن كل ذلك على شبه كرة يلف عليها الليل، ولف الليل أي: غيبوبة الشمس والدخول في الظلام.
وتكوير النهار أي: ظهور الضياء والنور وغيبوبة الليل.
ومما يؤكد هذا قول نبينا عليه الصلاة والسلام: (العرش فوق الكون وفوق السماوات هكذا، وأشار بيده كالقبة).
وهذا ما أجمع عليه المسلمون في عصر التابعين أخذاً بالنصوص القرآنية والنبوية، ونص على هذا التواتر أئمة في الحديث وأئمة في التفسير وأئمة في الفقه، منهم ابن حزم وابن تيمية والغزالي وآخرون لا يحصي عددهم إلا الله، قالوا ذلك قبل أن يخطر هذا المعنى ببال أحد.
وقال بذلك أحد العارفين بالله من علماء القرن الثاني فقال: الأرض الكروية مستطيلة بيضاوية، وهذا ما أكده الفقه والواقع، فهي كروية ولكنها مستطيلة على شكل بيضة.
وهذا هو المؤكد، فالشهيد الإدريسي المغربي من علماء القرن الرابع وضع مثالاً لجغرافية الأرض من فضة لجميع قاراتها وجعلها كذلك كروية، وكان إماماً كبيراً في الدين والعلم وفي المعرفة بالله كذلك.
قال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ [الزمر: ٥] أي: ذللها لنفع عباده، فالحي لا يستغني عن ضياء الشمس ولا عن ضياء القمر.
فالنباتات إذا غاب عنها الشمس أو غاب عنها ضياء القمر ذبلت وضاعت، وبالتالي لا تخرج ثمراً، ولذلك يقول الأطباء: بيت لا تدخله الشمس مرضى أهله، وبيت تدخله الشمس أصحاء أهله.
وشتان بين أن تعيش حياتك صحيحاً، وبين أن تعيش مريضاً.
قال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [الزمر: ٥] الشمس والقمر والليل والنهار تجري جميعها وتدور مع الأرض لأجل مسمى عنده، فالأجل المسمى هو يوم يفنى كل شيء ويبقى الواحد القهار، يوم تتصدع السماوات والأرض، ويوم يصبح الكل هباء في هباء كما كانوا.
قال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: ٢٦ - ٢٧].
قال تعالى: ﴿أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ﴾ [الزمر: ٥] تنزيه مرة أخرى لله الذي جعلوا له شريكاً ولم يخلصوا العبادة له، واتخذوا معه أنداداً وقالوا عنها: إنما عبدوها لتقربهم إلى الله زلفى، وهيهات هيهات، بل تلك هي أباطيل وأسماء ما أنزلها الله، فليس في الكون إلا الله الواحد القهار العزيز الغفار، العزيز الذي لا ينال ولا يغالب، ومن يتأله على الله يكذبه، ومع عزته وقهره وجلاله وجبروته وسلطانه يغفر لمن استغفر، ويتوب على من تاب، والإسلام يجب ما قبله.
فيغفر الله الشرك والكفر، ويغفر جميع الآثام لمن قال يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين، ولمن آمن بالله رباً وبمحمد نبياً وخاتماً للرسل وللأنبياء ﴿أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ﴾ [الزمر: ٥].