تفسير قوله تعالى: (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه)
قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ﴾ [الزمر: ٨].
يقول الله جل جلاله: ومنكم أيها الناس من يدعو الله قائماً إذا أصابه الضر أو البلاء من فقر ومرض وغيره، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا﴾ [يونس: ١٢].
فمن الناس من إذا أصابه ضر في نفس أو روح أو ما يتعلق به أخذ في الدعاء والضراعة إلى الله، حتى إذا استجاب الله له إذا به يغير ويبدل.
قال تعالى: ﴿ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ﴾ [الزمر: ٨].
أي: إذا جعل الله له ما يتخوله ويتملكه ويتصرف فيه بأن أكرمه وعافاه؛ بادر بالكفر والجحود والعصيان، ونسي ما كان يقوله من قبل من دعاء وضراعة.
وهذا المعنى يقول عنه عليه الصلاة والسلام مفسراً: (اعرف الله تعالى في الرخاء يعرفك في الشدة).
من عرف الله في الرخاء أي: عبده ودعاه وخافه ورجاه وهو في رخاء وعافية، وهذا الذي تعرف إلى الله في الرخاء يعرفه الله في الشدة، أي: إذا أصابته شدة من ضر أو حادث أو مرض فإن الله يتعرف إليه عندما يقول: رب أزل ما بي، لا باب إلا بابك ولا رب إلا أنت، ولا كاشف للداء إلا أنت يا رب، هذا الذي تعرف إلى الله في الرخاء كان حقاً على الله أن يتعرف إليه في الشدة.
فقوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ﴾ [الزمر: ٨] أي: حتى إذا خوله وملكه وأنعم عليه بنعمة نسي دعاءه الأول ورجاءه الأول وضراعته الأولى، وهذا عمل المنافق الكاذب الذي يؤمن على حرف.
فإذا هو رزق قال: أنا مؤمن، وإذا هو امتحن نسي الله ودعاءه والعبادة له، وما أكثر الناس في هذا.
في هذه الآيات أسباب نزول ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقد حدث هذا من أشخاص ونزلت الآيات بسببهم؛ ولكنها عامة في لفظها.
ولذلك من أراد أن يستجيب الله دعاءه ويكشف ما به من ضر، فليذكر الله وهو صحيح البدن، حتى إذا ابتلي وفتن بقي على دعائه وضراعته فيوشك أن يقبل الله دعاءه، ويوشك أن يستجيب الله لضراعته ورجائه.
قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الزمر: ٨] هذا قد اتخذ مع الله أنداداً، والأنداد: جمع ند، أي: شركاء، وهم عنده في رتبة الله ومنزلته، وهو تمام الشرك وقبيح الوثنية.
ويقول الله لهذا المشرك: ﴿قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ﴾ [الزمر: ٨].
فهؤلاء وهم في حال الضر والمرض يدعون ويرجون، حتى إذا كشف عنهم الغم والهم نسوا الضراعة والعبادة واتخذوا مع الله أنداداً وشركاء.
يقول الله: قل له يا محمد: ﴿قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا﴾ [الزمر: ٨] وماذا عساك أن تعيش؟ فقد عاش نوح مئات السنين وجاء بعده آلاف السنين، ومع ذلك كأنه لم يعش ساعة.
قوله تعالى: ﴿قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا﴾ [الزمر: ٨] فالحياة الدنيا كلها متاع قليل.
قال تعالى: ﴿إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ﴾ [الزمر: ٨] ولو لم يمت بعد ولم يدخلها، ولكن المتوقع كالواقع، أليس الصبح بقريب؟ بلى، قريب.
وهكذا يقال لهذا الكافر: مهما كفرت وأصررت على الكفر، فأنت من أصحاب النار ولم تتمتع بالحياة إلا قليلاً، وهيهات هيهات أن ينفعك هذا القليل، فهو في مرض متصل وذل متسلسل وبعد ذلك النار، فهو يمشي على رجليه في دار الدنيا، ومع ذلك هو محسوب من أهل النار.