تفسير قوله تعالى: (أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً)
قال الله جل جلاله: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ [الزمر: ٩].
الله جل جلاله يعرض علينا حالتين: حالة إنسان بُلي في جسده، وغر في عمله، فدعا ربه مدة ضرره وبلائه، حتى إذا رفع عنه ضره وبلاءه ﴿نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ﴾ [الزمر: ٨] أي: نسي ما خوله ربه، وترك ما كان يدعو إليه من قبل، هل هذا الذي هذه على هذا الحال خير ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ [الزمر: ٩].
هاتان حالتان: حالة الجاحد بنعم الله، إيمانه على حرف، إذا رزق شكر، ثم إذا ضر دعا حتى إذا شفاه الله وعافاه كفر بالنعمة، وترك الشكر والعبادة والتوحيد وعاد إلى اتخاذ الأنداد من دون الله فهذا قيل له: ﴿تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ﴾ [الزمر: ٨].
والحالة الثانية: حالة المطيع القانت، والقنوت: الطاعة في كل الأوقات حال المسرة وحال المضرة، وعلى كل الأحوال ليلاً ونهاراً.
قال تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ [الزمر: ٩] آناء: جمع آن، أي: في جميع ساعات الليل، أي: يصلي لله ويعبده، وعبادته تشتمل على السجود والقيام والقعود وعلى التلاوة والذكر.
والجواب مشتمل في قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: ٩] يعني: هل هم سواء؟ العلماء العارفون بالله، الذين إذا علموا شيئاً عملوا به، والذين عندما آمنوا وأسلموا عبدوا ربهم وقاموا بأركان الإسلام: مصلين، صائمين، حاجين، مزكين، تاركين الفواحش ما ظهر منها وما بطن، يسعون في عبادة الله وطاعته ورضاه.
فهل هذا الذي هو على هذه الحالة خير أم ذاك المشرك الكافر بالله الذي لا يعبد ولا يطيع، وهو مرتكب لجميع أنواع البلايا والمعاصي، فهذا يقال له: أنت من أهل النار.
ويقال له: مهما عشت ومهما دامت حياتك وطالت ولو كانت كعمر نوح فإن المآل إلى النار.
فقوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: ٩] أي: قل يا محمد! لهؤلاء الجهلة: هل الذين يعلمون الإسلام والتوحيد في مستوى واحد مع الذي لا يعلم؟ والعلم هنا المعرفة، ولا عبادة إلا بعلم ومعرفة، ومن عبد الله بغير علم يوشك أن يضل، ويوشك أن يعبده بما لا يعبد به جل جلاله وعلا مقامه.
فإذا كانت الصلاة ركعتين فركعتان، وإن كانت أربعاً فأربع، فمن حاول أن يزيد الصبح ثلاثاً والظهر خمساً يكون قد ضل ولم يطع ولم يقنت.
فلا علم إلا بعمل، ولا عمل إلا بعلم، وهذه المرتبة لأهل العلم العاملين بعلمهم العارفين بربهم، ولذلك جعل الله علماء أمته خلفاء نبيه صلى الله عليه وسلم.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (العلماء ورثة الأنبياء).
فنبينا ﷺ لم يورث مالاً (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة) فهو مال عام لعموم المسلمين، ولكن بقي منه ما ينفق على أمهات المؤمنين وعلى أحفاده وعلى من كان ينفق عليهم من أرامل بني هاشم ويتاماهم.
فالأنبياء لا يورثون ولكنهم يورثون العلم، إذ يرث العلماء علمهم، فيكونون بذلك خلفاء رسول الله في الدعوة إلى الله وإلى دينه، وإلى العلوم التي أتى بها المصطفى صلوات الله وسلامه عليه.
فالمعنى في الآية: قل يا محمد: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟
و ﷺ لا.
وكثيراً ما يستغنى بالسؤال عن الجواب، إذ لا يعقل أن يكون الجواب بلا سؤال، ولا يقول هذا من له عقل، فذاك الذي دعا ربه عندما مسه ضر وبلاء ثم فرج الله عنه وخوله وملكه نعمة، فإذا به يشرك بالله ويجعل له أنداداً، فهل هذا عالم وعارف؟ وهل يستوي هذا والذي يضل ليله قائماً وساجداً وراكعاً وتالياً، يضرع إلى الله أن يستجيب دعاءه؟ وهذه الآية تكذب من زعم بأن عبادة الله خوفاً من ناره ورجاء رحمته ليست عبادة، كما أن العبادة من غير رجاء جنته ولا خوف ناره هي رتبة عالية، ولكننا لم نطالب بها.
يقول الصحابة: (إنا إذا كنا عند النبي ﷺ رأينا من أنفسنا ما نحب، فإذا رجعنا إلى أهالينا فخالطناهم أنكرنا أنفسنا، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لو تدومون على ما تكونون عندي في الحال لصافحتكم الملائكة حتى تظلكم بأجنحتها).
ولكن الحال لن يدوم كذلك، إذ إن الإنسان بين خوف ورجاء، وبين ذنب وتوبة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام عقب الحديث: (لو لم تذنبوا لأتى الله بقوم يذنبون فيغفر لهم).
لأن من أسماء: الله الغفار والغافر، ولا بد أن تأخذ الأسماء معانيها ومسمياتها، أما الغافر بلا مغفرة فلا يكون.
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (المؤمن واه راقع، وخيركم من مات على رقعه) أي: يعبد ثم يذنب إلى أن تتقطع تلك الحسنات في الذنوب، ثم يرقعها بالتوبة والمغفرة كما يكون الثوب جديداً، فيهي ثم يتقطع ويتمزق ثم يرقعه.
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (المؤمن واه راقع) من الوهي وهو البلى (وخيركم من مات على رقعه) مات وقد رقع ثوبه، وقد تاب من ذنبه.
وعبادة الله مبنية على الخوف والرجاء، كما أثنى الله على هؤلاء الذين يطيعون ربهم ويتهجدون ليلهم ساعة بعد ساعة، ينامون زمناً ويتهجدون زمناً، يبدءون بأشغالهم زمناً ويتفرغون لعبادة الله زمناً آخر، يفعلون ذلك وهم يحذرون الآخرة، يخشون ويخافون ما يكون فيها من عذاب.
ويرجون الآخرة: يرجون ما يكون فيها من رحمة الله ورضوانه ودخول الجنان، وقد قال الرازي هذا في تفسيره.
فقوله: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: ٩]
ﷺ لا، وهذا مفهوم من سياق الكلام وتفهمه عقول السامعين من البشر.
وهي درجة ورتبة أشاد الله فيها بالعلماء ليزدادوا علماً وليزدادوا عملاً بالإرث النبوي من نشر دينه والدعوة إليه، ومجاهدة الكافرين والمنافقين، والحب في الله والبغض في الله.
يقول ربنا: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ [الزمر: ٩] أي: إنما يعي هذه الحقائق وهذه المعارف أصحاب العقول.
والألباب: جمع لب وهو العقل.
ولذلك فإن الكافر والمنافق لا عقل له، فلو كان له عقل لعمل لآخرته ولسعى لنجاته، فلو علم أن في أرض الصين ربحاً مادياً، لسعى إليها بحراً أو جواً وكيفما استطاع.
كما أنه يعلم أن بعد الحياة موت ولم ير بعينه، ولكنه يسأل نفسه: أين آباؤه؟ وأين أجداده؟ أين كبراؤه، والصغار يبدءون في النمو، والذي يكبر يذهب إلى الفناء، وهكذا دواليك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فمن يعلم هذا ويوقن به ولا يعمل له فهو مجنون ليس بعاقل، هو بعيد عن مصلحته لنفسه، ولذلك يخاطب الله ذوي الألباب ليعبدوه ويطيعوه؛ وليكون جزءاً من الذكر الإلزامي.
فقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ [الزمر: ٩] أي: لا يتذكر هذا ولا يعيه ولا يعقله ولا يفكر فيه إلا ذوو العقول، فهم الوعاة المفكرون، وهم العقلاء بين الناس، أما سواهم من غير المؤمنين فلا.