تفسير قوله تعالى: (أفمن شرح الله صدره للإسلام)
قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [الزمر: ٢٢].
هذا السلسلة من الآي هي أسئلة تقريرية فيها لفت نظر أولي الألباب والعقول، ودعوا الجواب للسامع العاقل كما مضى من بداية السورة إلى هنا.
فقوله: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ [الزمر: ٢٢] سؤال تقريري.
قال: (أَفَمَنْ شَرَحَ) أي: هل من شرح الله صدره وفتحه للإسلام وأنار به بصيرته وتفتحت له سريرته كمن أغلق قلبه عن الإسلام وكفر به ولم ينشرح له ولم يستنر قلبه له، بل كان في ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج الرجل يده لم يكد يراها؟ معناه: هل الذي شرح الله صدره للإسلام ووسعه فصار مؤمناً عاقلاً واعياً خير، أم هذا الذي أخذته ظلمات فأغلق قلبه عن الإيمان وصعد الران على قلبه فكان مشركاً كافراً؟ ولن يتردد العاقل ولا المؤمن أن يقول: من شرح الله صدره للإيمان خير وأفضل وأكرم، وهو الإنسان الذي يجب أن يقتدى به.
عندما نزلت هذه الآية سأل العباس بن عبد المطلب رسول الله النبي ﷺ -وروايته عزيزة- فقال: (يا رسول الله! ما معنى شرح الله صدري للإسلام؟ قال: يفتحه، قال: وما علامة ذلك؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن الدنيا، والإعداد للموت قبل الموت) فعلامة انشراح صدر الإنسان وتوسيعه وتفتحه أن تراه مع نفسه يفكر: ما العاقبة يوم نقبل على الله؟ هل سنبقى مؤمنين إلى أن نلقاه؟ نرجو الله ذلك حتى يتقبلنا الله برحمته ورضاه.
ولذلك فهو يفكر باستمرار أنه ما عاش إلا ليموت، والعقلاء يعجبون من إنسان حكم الله بموته وهو مع ذلك يلهو ويلعب، وكلنا نعلم وكل حي على وجه الأرض يعلم أنه ميت لا محالة، وهو حكم صدر عن الله جل جلاله.
ونحن إذا رأينا إنساناً حكم عليه بالموت فكيف ينبغي أن يكون؟ ينبغي أن تجده في ذكر واستغفار فلا يكاد يبتسم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً).
ولكننا مع ذلك ونحن محكوم علينا بالموت تجدنا نتناسى ونتغافل ونلهو ونلعب، والقليل القليل منا من يقوم بواجباته، من يقوم بصلواته وصيامه.
القليل في الدنيا من يوحد الله ويقول: لا إله إلا الله، ومع ذلك نجد الناس يموتون يومياً صباحاً، ويموتون ظهراً، ويموتون ليلاً، ونحن نعلم أن يوماً من الأيام سيقال: كان فلان رحمه الله، إن فعل خيراً لله وإلا فقد يقولون: لا رده الله، لقد كان بلاءً على الناس.
وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من شهدتم له بخير فهو في الجنة) ولذلك قال للمؤمنين من أصحابه عندما أثنوا على جنازة مضت: (وجبت، ثم مضت جنازة أخرى فأثنوا عليها شراً فقال: وجبت، فسئل المصطفى عليه الصلاة والسلام: ما وجبت الأولى وما وجبت الثانية؟ قال: عندما أثنيتم على الجنازة الأولى بالصلاح وبالخير قلت: وجبت، أي: وجبت له الجنة، وعندما أثنيتم شراً على الجنازة الثانية قلت: وجبت، أي: وجبت له النار، أنتم شهداء الله على خلقه).
فقوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ [الزمر: ٢٢] أي: مستنير بدينه وبأدلته على يقين تام أنه على الحق وغيره على الباطل، فهو مؤمن عن دليل ويقين وانشراح قلب وخاطر.
قال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ﴾ [الزمر: ٢٢] فالذين لم تنشرح صدورهم للإيمان هم قساة القلوب، وقد قال مالك بن دينار: أشد بلاء يبتلى به الإنسان على وجه الأرض أن يعاقب بقسوة القلب.
وقاسي القلب لا يفتح صدره للإسلام ولا لموعظة من كتاب أو سنة أو عارف من العارفين، فتجده قد صعد الران على قلبه، فلا يتأثر بآية ولا بحديث ولا يتأثر بموت، فهو من القسوة كالحجارة، بل إن من الحجارة ما يتفجر منه الأنهار، فهو أقسى من الحجارة، كما وصف الله اليهود لعنات الله عليهم تترى.
فقوله: ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر: ٢٢] أي: يا ويل قساة القلوب الذين قلوبهم لم تنشرح للإسلام ولا لموعظة ولا لآية ولا لحديث ولا لحكمة يسمعونها.
والويل: وادٍ في جهنم.
يا ويلهم يوم يدخلون إليه يشربون من حميمه فتتساقط أمعاؤهم من شربة واحدة، ثم تعاد ليعاد عذابهم.
قال: ﴿مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر: ٢٢] أي: عن ذكر الله، وحروف الجر ينوب بعضها عن بعض.
هؤلاء القاسية قلوبهم إذا ذكر الله لا تنفتح قلوبهم ولا تنشرح، فلا يتأثرون، ولا يتعظون ولا يعون.
قال تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [الزمر: ٢٢] أي: هؤلاء القساة قلوبهم التي صعد الران عليها، ولم تنشرح صدورهم لذكر لله، وللإسلام، هم في ضلال واضح بين يراه من يعلم ومن لا يعلم.


الصفحة التالية
Icon