معنى قوله تعالى: (لهم ما يشاءون عند ربهم)
قوله: ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ﴾ [الزمر: ٣٤] أطلق الله لهم المشيئة، أي: كل ما شاءوا ورغبوا فيه من أنواع الملذات والشهوات والراحة والسعادة، من قصور ومآكل ومشارب وحور عين، وما هو أعظم من ذلك، وهو رؤية الله العظيم المتعال: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢ - ٢٣] ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ [المطففين: ٢٤] أي: ينعمون وأثر النضارة والجمال بادية على وجوههم وواضحة في حواسهم، وهم مع ذلك ينظرون إلى ربهم وهذا ألذ اللذائذ.
ولذلك ورد في الحديث القدسي أن الله جل جلاله يقول لعباده وهم في الجنة: هل أزيدكم؟ فيقولون: يا ربنا! ماذا تزيدنا وقد أعطيتنا ما لم يخطر في بالنا من مشارب ومساكن ومآكل ومن حور عين، فيقول الله لهم: أريكم وجهي، فيتجلى لهم جل جلاله بوجهه الكريم، وهذا يفهم من قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢ - ٢٣].
قال تعالى: ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِم﴾ [الزمر: ٣٤] فهم لهم في الآخرة ما يشاءون من رحمة ورضاً وجنان.
قوله: ﴿ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الزمر: ٣٤] أي: تلك مكافأتهم وعطاؤهم وأجرهم، والإحسان: أن تؤمن بالله وتزيد على ذلك مع اليقين والطاعة.
ثم زاد ربنا فقال في تمام هذا الجزاء: ﴿لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا﴾ [الزمر: ٣٥].
يكفّر الله أي: يستر ويغفر، وأصل الكفر: الستر، يقال: فلان كفر، أي: غطى الحقائق وحجبها، والمغفرة كذلك: الستر، من الغفارة: وهو ما يغطى على الرأس في الحرب ليقيه ضرب السيوف والنبال والرماح.
فقوله: ﴿لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا﴾ [الزمر: ٣٥] أي: أقبح ما صنعوه في الدنيا، وأقبح ما يكون بعد الإيمان وهو بغير حق؛ ومعنى ذلك: أن الله يغفر أعظم السيئات لمن جاء تائباً موحداً ومصدقاً، قال الصدق وعمل به وصدّق به.
قوله: (أسوأ): أفعل تفضيل على يقتضي المشاركة والزيادة من السيئات، ولكن أسوأها وأقبحها يغفره الله، وإذا غفر الله الأكبر والأسوأ فمن باب أولى أن يغفر الذي دونه؛ وهذا معنى قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ [الزمر: ٥٣] لم يذنبوا فقط بل زادوا في الذنب بإسراف، والإسراف: الزيادة في الشيء، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: ٤٨] ودون الشرك جميع الذنوب وجميع الآثام.
قال تعالى: ﴿وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الزمر: ٣٥].
أي: وفي المقابل يجازيهم بأحسن أعمالهم ويكافئهم، وأعظم الأعمال لا إله إلا الله والصلاة وبقية الأركان، فالله يجازيهم عليها.
ولذلك فالتوحيد هو الفارق بين أهل الجنة وبين أهل النار، فمن جاء يوم القيامة وهو موحد فإن مآله دخول الجنة والرضا والرحمة، ومن جاء كافراً وإن أتى بأعمال صالحة تصير كلها سراباً هباء، وهو خالد مخلد في النار.
فقوله: ﴿وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الزمر: ٣٥] أي: ويجزيهم ربهم من الأعمال أعلاها وأكرمها وأسماها، وأسوأ السيئات يغفرها، وهو يجازي على القليل بالكثير، فالحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما يشاء الله، فقد قال الله: ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [الزمر: ٣٤] أي: بغير حساب ولا كيل ولا ميزان، يحثو لهم حثواً.