تفسير قوله تعالى: (أليس الله بكاف عبده)
قال تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ﴾ [الزمر: ٣٦ - ٣٧].
يقول تعالى لنبيه: بلّغ جميع عبادي العابدين: أليس الله بكاف عبده؟
ﷺ بلى، وهو استفهام تقريري جوابه فيه، فهذا الذي يخوف بعمل مخلوق وجبروته وظلمه، ويخوف بشؤم الأصنام والأوثان، فاكتف يا محمد! وهكذا يدافع الله تعالى عن الذين آمنوا ويكافئهم ويتولاهم.
قوله: (عَبْدَهُ): أي: عابده، فيدخل في الدرجة الأولى الأنبياء والملائكة ويدخل بعد ذلك المتقون الصالحون من عباد الله جناً وإنساً، والمعنى: أفلا يكفي إنسان أن يدافع الله عنه ويحميه ويتولى رعايته وكفايته ونصرته؛ وقد قال الله ذلك عندما قال الكفار لرسول الله: إنا نخاف عليك من آلهتنا وأنت تسبها وتزيفها، ألا تخاف أن تصيبك بخبال وجنون وتُمرضك؟ فهؤلاء يخوفون أولياء الله والعابدين بالأصنام والأوثان التي لا تنفع ولا تضر.
فقوله: ﴿وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾ [الزمر: ٣٦] أي: يخوّفون رسول الله بمن هو دون الله من أوثان وأصنام لا تضر ولا تنفع، ولا تعي ولا تعقل.
ثبت في الأثر أن رسول الله ﷺ أخبر خالد بن الوليد أن في الطائف صنماً يؤلهونه وأمره أن يكسره، فوافق خالد وهو الأمير ليضرب هو ومن معه هذا الصنم ويفتتوه، فأخذوا يصيحون ويحذرونهم: إياكم أن تمسوه فيصيبكم خبال وبلاء، فقال خالد: ليس للصنم إلا أنا، فأخذ فأساً وارتفع في وجهه وكسر أنفه وعينه ورأسه ثم رمى به.
فالمشركون خوّفوا رسول الله ﷺ كما خوفوا خالداً وقد دخل مكة عليه الصلاة والسلام فاتحاً معززاً مظفراً، فأتى الكعبة وكان فيها ثلاثمائة وستون صنماً فأخذ يقول: (﴿جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء: ٨١]) وفي يده عصاً يكسر بها هذه الأصنام فتسقط وتترامى، وأخذ من لا يزال على شركه يخوّفه مما يفعل صلى الله عليه وسلم، فيقول الله له وللقائمين بوحدانية الله، الكافرين بالشرك والأوثان: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزمر: ٣٦].
فهؤلاء قد ضلوا وكفروا وخرجوا عن الحق، وأغرقوا أنفسهم في الباطل، فهم ضلوا عن علم، وضلوا بعد مجيء الرسالة ومجيء كتاب الله، وبعد أن علّمهم وعرّفهم بالأدلة الأصولية التي لا ينكرها إلا أعمى البصيرة قبل أن يكون أعمى البصر، فبقوا على أصنامهم وعلى أوثانهم، ومن ضل فلا هادي له من دون الله، وليس له من يهديه إلا الله، والرسل يهدون وإنما كلّفوا بالبلاغ وبالدعوة ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة: ٢٧٢].
قال تعالى: وحتى لو أمرت إنساناً فائتمر ونهيته فانتهى فإن منك البلاغ، أما الهداية فهي حيث شرح صدره للإسلام ووسع قلبه لقبول الحكمة؛ وإلا فقد تكون أبلغ وأفصح من ذلك، وأكثر دلالة من ذلك، ولكن الذين تدعوهم مصروفون عن قول الحق وسماع الصدق، ويأبون إلا الكفور والفجور، وقد يجدون أفضل من كلامك فيغلقون آذانهم ويقولون: ﴿لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ [فصلت: ٢٦].
فقوله: ﴿وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾ [الزمر: ٣٦] أي: من دون الله وهم كل ما خلق الله مما اتخذوه وثناً وطاغوتاً شريكاً مع الله ونداً، قوله: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزمر: ٣٦] أي: من أضله الله لا هادي له وسيبقى على ضلاله إلى أن يُخلّد في النار ﴿وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مُضِلٍّ﴾ [الزمر: ٣٧] أي: يشرح صدره لقبول الموعظة وسماع كلام الله وإدراك فهمه وفهم تفسير رسول الله عليه الصلاة والسلام، فمن هداه الله فلا يخاف ضلال أحد.
ثم قال تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ﴾ [الزمر: ٣٧] بلى يا ربنا! إنك أنت العزيز الذي لا ينال جنابه، والعزيز الذي من اعتز بك عز ومن اعتز بغيرك ذل، فالله يُعز المؤمن وينتقم من الكافر المشرك، وإنما العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون؛ فالمؤمن يشعر بالعزة وبالعظمة نتيجة إيمانه وتعلقه بالله، فلا عزيز إلا الله ولا عزيز إلا من أعزه الله، ومن يذلل الله فلا مُعز له، كما أن الله ينتقم من أعدائه الكفرة يهوداً ونصارى ومنافقين، ويدخلهم في نار جهنم خالدين فيها أبداً كلما نضجت جلودهم بدّلهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب.
وقوله: (ذي انتقام) من الأسماء الخمسة التي تُرفع بالواو وتُنصب بالألف وتُجر بالياء، فتقول: جاء ذو مال، ورأيت ذا مال، ومررت بذي مال، وجاء ذو دين، ورأيت ذا دين، ومررت بذي دين.


الصفحة التالية
Icon