تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق)
قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ [الزمر: ٤١].
يقول ربنا بأنه أنزل الكتاب على نبيه ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ﴾ [الزمر: ٤١] أي: أنزلنا عليك الكتاب لتكون به بشيراً ونذيراً لجميع الناس، عرباً وعجماً، مشرقاً ومغرباً، من عاصرك في حياتك ومن جاء بعدك وإلى يوم القيامة، فلا نبي ولا رسول ولا دين بعدك ولا كتاب؛ وهذه من الآيات التي تؤكد وتتفتح لعلوم الأمثال الخالدة، كقوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: ١٥٨].
فقد أنزل الله الكتاب على رسوله ﷺ ليكون للناس بشيراً ونذيراً معلماً ومبيناً، من اهتدى به فقد اهتدى، ومن أعرض عنه فقد ضل، أنزله الله بالحق، فكل ما فيه حقيقة بعقائده وأحكامه وآدابه وقصصه، وحقيقة بما قصّه علينا من أخبار الأولين، وبما يُخبرنا من أخبار الآتين إلى يوم القيامة.
قال تعالى: ﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ﴾ [الزمر: ٤١] بعد البيان والعلم، وبعد الرسالة وتمام البلاغ.
﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ﴾ [الزمر: ٤١] من قبِل هداية القرآن ورسالته، فهداية محمد ﷺ فلنفسه، والهداية يعود نفعها عليه، فهو الذي سيمتع برحمة الله ورضوانه وبالخلود في الجنان.
قال تعالى: ﴿وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ [الزمر: ٤١] أي: ومن أبعد عن الطريق وضاع عنها، وسلك الطرق المعوجة وترك القرآن الكريم، وقبل ديانة النصارى وديانة اليهود وديانة عبدة الأوثان، وكل ذلك قد غُيّر وبُدّل وحُرّف، فمن ترك الحق فقد ضل ونفسه أضر وضلاله على نفسه عائد عليها بالضرر والهوان والخلود في النار، فهو أبعد ما يكون عن الهدى.
وقد بيّن الله الحق وأنزل الرسل وتبقى الحجة البالغة لله، فإذا سئل عند موته: من ربك؟ من نبيك؟ ولم يجب فلا يلومن إلا نفسه؛ لأنه سمع الكتاب المنزل عليه وقرأ السنة بياناً وشرحاً، سمعها من أبيه أو أخيه أو شيخه أو من مجتمعه أو من أي مكان.
سمع في الأرض أن إنساناً من جزيرة العرب اسمه محمد خرج من مكة ثم انتقل إلى المدينة، يقول: أنا رسول الله للناس جميعاً جئتكم بالهدى وبسعادة الدارين، جئت منذراً للكافرين بالنار ومبشِّراً المؤمنين بالجنة؛ فهو عندما يسمع ذلك ويبلغه يصبح ملزماً بالإيمان وبالإسلام، والجهل ليس عذراً، وعدم معرفة العربية ليس عذراً، فإن لم يعرفها فليتعلمها، فإن لم يتعلمها فليسأل أهل هذه اللغة ليفسروا له، أما أن يبقى على ضلال ويقول: ما علاقتنا! هذا نبي المسلمين! بل نبي العرب والكتاب منزل على العرب، فهذا يضحك الشيطان عليه حتى إذا جيء به يوم القيامة ووقف الملكان على رأسه وأخذا يسألانه من ربك؟ من نبيك؟ ما دينك؟ وأخذ يهذي ولا يجيب ويقول: سمعت ناساً يقولون وآخرين يقولون، لن ينفعه هذا من عذاب الله في شيء؛ ولذلك أنذر الله وبشر، وأمر نبيه الخاتم أن يبشّر وينذر بأمره وبنهجه؛ لذلك كثيراً ما كان يحذّرنا نبينا عليه الصلاة والسلام وينصحنا ويقول: اجتهدوا حياتكم قبل مماتكم، وشبابكم قبل شيخوختكم، وصحتكم قبل مرضكم، وفراغكم قبل شُغلكم، وإلا فالوقت كالسيف إن لم تقطعه بالعمل فيه وبالعبادة فيه وبالتفكر فيه فاتك الزمان، وإذا بك يوماً من الأيام ميت، وبعد الموت لن ينفعك شيء، قال تعالى: ﴿لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا﴾ [الأنعام: ١٥٨].
قال تعالى: ﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ [الزمر: ٤١].
وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ [هود: ١٢].
وقال تعالى: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾ [الرعد: ٤٠].
فوظيفة الأنبياء البلاغ وليست الهداية، الهداية بيد الله سبحانه وهذا القرآن جاء بلاغاً من رسول الله عن ربه جل جلاله، فلا حجة لنا ولا لمن سبقنا ولمن يأتي بعدنا ولا لأحد في الأرض في مغاربها ومشارقها، فكل من بلغه أن هناك عبداً لله قال أنا نبي الله، ودعا إلى القرآن الكريم وبالرسالة الهادية ثم أعرض عن ذلك إلا أصبح من المشركين الكافرين عليه عذاب الله الخالد ولا عذر له ولله الحجة البالغة.