تفسير قوله تعالى: (فإذا مس الإنسان ضر دعانا)
قال تعالى: ﴿فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: ٤٩].
قال تعالى: وبعض هؤلاء ولعلهم أماثلهم وصالحو كفارهم، كان إذا أصابه الضر، أي: أصيب وبلي بضرر أو بكارثة في جسده أو روحه أو ماله أو في أولاده أو في أي شيء يضره ويؤذيه؛ ((دَعَانَا)) إذ ذاك فيذكر الله ويتضرع إليه ويدعوه كشف الضر عنه، فلا يعلم ذلك ولا يقوله، ولا يعلنه إلا إذا امتحن بالضر والبلاء.
وذاك خلاف ما قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (تعرف إلي في الرخاء أعرفك في الشدة)، يقول ربنا: تعرف إلي وأنت في هناءة من العيش وعافية وصحة وغنى أعرفك في الشدة والمصيبة.
فاعبد الله، واضرع إليه وادعه، قم الليل ساعات، وابك على خطيئتك، واستغفره من ذنوبك، وتصدق بما أعطاك الله، وأحسن إلى الفقير والمسكين واليتيم والأرملة والمريض العاجز، فإن فعلت ذلك وأنت في نعمة وعافية ورخاء فإنك إذا أصبت بالبلاء يعرفك الله ويكشف ضرك ويزيل ما آذاك وأضرك وأمرضك، ويزيل ما أسقطك في الفراش وطرحك.
قال تعالى: ((فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا)) الألف واللام تدل على الجنس، أي: جنس الإنسان في الأغلب، لا يذكر الله ولا يتذكر الدعاء والضراعة إليه، ولا يتذكر قدرته ووجوده إلا إذا أصابه ضر في جسد أو مالٍ أو أي شيء يؤذيه.
قال تعالى: ((ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً)) أي: إذا ملكه الله نعمة، كأن يكون جعل له نعمة العافية، نعمة رفع الضر، نعمة إجابة الدعاء.
قوله: (مِنَّا) أي: من الله جل جلاله، ((قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ))، أي يقول: هذا كان بعلم مني ومعرفة وذكاء وفهم وإدراك، لذلك استطعت كسب المال وشفاء جسدي، والتملك على الناس وبذل الجاه؛ لأن الله جل جلاله علم صلاحي وأهليتي لذلك، فأعطاني في دار الدنيا مالاً وجاهاً، فالذي أعطاني ذلك في دار الدنيا سيعطيني في الآخرة أعظم من ذلك.
فهكذا يفتري على الله الكذب؛ كفراً للنعمة وعدم شكر لها، والأمر كما قال تعالى عن شكر النعمة: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: ٧]، فالشكر على النعم يزيدها، والكفر بها يزيلها ويسلبها، فهذا يكفر النعمة فيسلبها وتزول عنه، ويعود لهوانه ولضره وبلائه، وهيهات هيهات أن تكون العافية لمن أتى يوم القيامة جاحداً مشركاً.
((ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ)).
يقول تعالى: ليس كما زعم هذا الجاهل -هذا إضراب عن قوله، بل هو فتنة أي: اختبار من الله، يختبر هذا العبد حتى يشكر الله على نعمه وعافيته ويصبر عليها، فإن لم يفعل كان قد امتحن فرسب، وعند الامتحان يعز المرء أو يهان، فهذا المرء امتحن ورسب وأهين عند الامتحان، وكان يعيش بالدعوى فتبين أن دعواه كاذبة، وليست مستندة على أصل أو واقع.
قال الله تعالى في سورة الأنبياء: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: ٣٥] أي: يبتلي الله البشر بالخير فتنة وبالشر فتنة، والله يرزق من يرزق ويوسع عليه، إياك أن تغتر وتقول كما قال هؤلاء الكفار: أنا رجل أعلم التجارة والزراعة وأعرف كيف أتصرف، فإن هذا المال الذي ملكته وهذا الجاه وهذا الخول نتيجة معرفتي وعلمي، فمن يقول ذلك فقد كفر بالله، وجحد نعم الله، ويوشك من يفعل ذلك أن يسلب النعمة.
قال تعالى: ((وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)) أي: أكثر هؤلاء المبتلين لا يعلمون، فالكافر كافر، ولكن معناه أن بعض هؤلاء ربما يتوبون وينيبون ويوحدون الله، ويبقى الأكفر، قال تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنعام: ١١٦].
فهؤلاء لا يعلمون أن ذلك ابتلاء واختبار من الله، بل فليبادروا إلى شكر النعم وليبادروا إلى الصبر على البلاء، ويعبدوا الله في الرخاء وفي الشدة، وفي الرخاء أكثر، فإن فعلوا يوشك أن يذكرهم الله في الشدة، وأن يستجيب ضراعتهم ودعواتهم، وإذا هم لم يفعلوا كان ذلك في الدنيا وبالاً، وفي الآخرة عذاباً.