تفسير قوله تعالى: (أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق)
فهؤلاء الذين قالوا إنما ملكنا وتقوينا وكان لنا من الكنوز ما كان هو بعلمنا، وبمقدرتنا وبما جعل الله فينا من أهلية هو أعلم بها، ولن يزيدنا يوم القيامة إلا أحسن من ذلك وأكرم، فهؤلاء لا يزالون على الشرك؛ لذلك قال الله: قل يا محمد لهم: ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الزمر: ٥٢].
استفهام تقريعي توبيخي، أي: ألم يعلم هؤلاء أن الله يرزق من يرزق ويمنع الرزق عمن يشاء؟ فقوله: ((أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ)) أي: يوسعه يكثره.
قوله: ((وَيَقْدِرُ)) يقدره ويقلله، أي: هو الذي يفقر من شاء ويغنى من شاء له الحكمة البالغة، وكل يعامله بما هو خير له مآلاً وخير له حالاً.
أولم يعلموا أن الغنى والفقر ليس بمحبوبية ولا بكراهية، ولكنه ابتلاء من الله لخلقه منذ خلق آدم وحواء إلى يوم القيامة، وليس لسعة متكبر ولا لذلة ذليل، ولو كان كذلك لكان الأنبياء أغنى خلق الله على الإطلاق.
وقد عرض على نبينا عليه الصلاة والسلام جبال مكة والمدينة ذهباً وفضة فأبى ذلك، وقال: (أعيش نبياً عبداً، أشبع يوماً فأشكر، وأجوع يوماً فأصبر)، وهو مع ذلك سيد الملوك الأباطرة، الشريف من الخلق والكبير من وضع رأسه عند نعله وبين قدميه.
ودعك ممن لا يعلم قدر النبي عليه الصلاة والسلام؛ فقد كان لا يهاب الملوك والأغنياء صلى الله عليه وسلم، بل هم الذين كانوا إذا رأوه هابوه وارتعدوا منه، كان يجيئه الرجل فيضطرب ويرتعد فيقول له: (هون عليك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة).
ولولا رحمة الله بأمته وأتباعه لما استطاعوا الجلوس بين يديه، أما رفع البصر بين يديه فما كانوا يستطيعونه، إذ كانوا يجالسونه وكأنما على رءوسهم الطير هيبةً وحباً واحتراماً، أما أن يهابوه كالملوك، فهذا كلام من لم يعرف من هو نبي الله، ولم يتأدب بعد بأدب رسول الله، ولم يعلم المقامات ليعطيها منازلها، وليعطيها حقوقها، وكثير من الناس، وممن يزعم العلم يظن أنه يعطي الحق عندما يقول مثل ذلك، وإذا به يضيع الحق ويقل من الأدب مع المصطفى عليه الصلاة والسلام.
فقوله تعالى: ((أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ)).
أي: ألم يعلموا أن الغنى والفقر ليس بإكرام ولا إذلال، ولكن لله في ذلك الحكمة، والصالحون من الأنبياء فمن دونهم كانوا يستعيذون من الدنيا وغناها، ويبعدون عنها بعدهم عن المجذوم، فقد قال عليه الصلاة والسلام -ولله في ذلك حكمة-: (إن لله عباداً لا يصلحهم إلا الفقر، ولو أغناهم لأفسدهم، وإن لله عباداً لا يصلحهم إلا الغنى، ولو أفقرهم لأفسدهم)! ومن هم هؤلاء؟ الله يعلم، ولكن نحن نعلم بتعليم الله لنا، فقد كان لنا زملاء على مقاعد الدرس، كانوا فقراء مدقعين وقلما يجدون قوت يومهم، وكانوا على غاية من الصلاح والدين والأخلاق، وإذا بنا نكبر ويكبرون، ويتولون المناصب فيتخولون الأموال والجاه والسلطان والخدم والحشم، وينسون الله ألبتة؛ فلا صلاة ولا صيام ولا ذكر لله، ولا خوف منه، ألم يكن من صالحهم أن يبقوا فقراء، أليس من الخير أن ينزع عنهم مالهم ليعودوا إلى الله؟ وما أرى إلا أن الران قد صعد على قلوبهم ونسوا الله فأنساهم أنفسهم وتركهم، والله لا ينسى، ولكن نسيان الله لهم هو تركهم وعدم المبالاة بهم.
وهذا شيء متعلق بإرادة الله وقدرته وحكمته لا بعلم عند هؤلاء، ولكن إذلال لأولئك، كم من فقير لا يجد قوت يومه هو عند الله أكرم وأشرف من جماهير ممن يملكون الملايين.


الصفحة التالية
Icon