تفسير قوله تعالى: (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً)
﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ [الزمر: ٧٣].
الله جل جلاله عودنا في كتابه أن يجمع باستمرار بين الخوف والرجاء، وبين حال الكافرين وحال المؤمنين، وهكذا بعد أن وصف حال الكافرين، وصف حال المؤمنين وقد قضي لهم بالحق وجاء وقت التنفيذ، فقال تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا﴾ [الزمر: ٧٣]، اللهم اجعلنا منهم.
فهؤلاء كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (يأتون الجنة على نوق لها أجنحة وتأتي الملائكة تأخذ بلجم هذه النوق يسوقون بهم سوقاً رفيقاً) يساقون بود ومحبة، يساقون سوق الغبطة إلى الجنة، فالكافرون سيقوا سحباً على وجوههم، والمؤمنون يساقون بنوق لها أجنحة، وفيها كذا وكذا مما وصف النبي عليه الصلاة والسلام.
فقوله: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا﴾ [الزمر: ٧٣] أي: جماعات بعد جماعات، يقال: جاء القوم زمراً أي: جماعات متفرقة، ومعناه: كل رفقة أتت مع أمثالها، فتبدأ زمر أهل الجنة بزمرة الأنبياء، ثم بزمرة الصحابة، ثم بزمرة الأولياء، ثم بزمرة العلماء، ثم بزمرة المؤمنين، وكلٌ على حسب مقامه وطاعته وعبادته.
قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ [الزمر: ٧٣].
أي: حتى إذا جيء بهؤلاء إلى الجنة وفتحت لهم أبوابها.
قال الله عن أهل النار: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ [الزمر: ٧١]، يعني: كانت مغلقة وفتحت بعد مجيئهم، وقال عن أهل الجنة: ﴿إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ [الزمر: ٧٣] فذكر واو الحال، أي: جاءوها والأبواب مفتحة لهم مستعجلة قدومهم مرحبة بمجيئهم، وفي الأحاديث النبوية الصحيحة: (يؤتى بالمؤمنين يريدون دخول الجنة، فيكون أول داخل نبينا عليه الصلاة والسلام، فيستأذن في الدخول ويطرق الباب فيقول له الخازن وهو رضوان: من أنت؟ يقول: محمد، فيقول له: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك).
فرضوان كبير بوابي الجنة يقول: أمرت من قبل الحق أن لا أفتح باب الجنة لأحد يدخلها حتى تدخلها أنت يا محمد! فقد أخبر المصطفى عليه الصلاة والسلام بأنه يكون أول من يدخلها، وما ذاك إلا بما أعطاه الله حيث قال له: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ [الضحى: ٥].
فمقام المصطفى ﷺ أكثر أجراً وثواباً وأكثر رفعة، ولذلك فإن الله يعطيه إلى أن يرضيه، ومن ذلك أن يكون أول شافع، وأول طارق لأبواب الجنة، وأول داخل للجنة، وهذا من تمام إكرام الله له، كذلك يعطيه المقام المحمود الذي نص الله عليه، وأنه يشفع في الخلائق كلها، وقد مضى هذا مفصلاً في كثير من الآيات الماضيات.
قال تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الزمر: ٧٣].
فخزنة جهنم استقبلوا أهل النار بالعنف والشدة، وهؤلاء المؤمنون استقبلهم خزنة الجنة ضاحكين مستبشرين مسلّمين مؤمّنين، قال تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الزمر: ٧٣]، أي: سلموا عليهم وأمنوهم بسلام الله وبأمانه، وأنهم لن يروا بعد اليوم عذاباً، ولا مشقة ولا تعباً، فهم في راحة أبدية وسلام أبدي، وفي أمان من عذاب الله أبدي، لا يجوعون ولا يظمئون ولا يملون، ولا يتمخطون ولا يتبولون، ولا يتغوطون.
يقول علي كرم الله وجهه: قبل أن يصلوا إلى الجنة يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار عند أصل الشجرة، فيجدون عينين نابعتين، فيغتسلون بعين تطهرهم وتزيل جميع أمراضهم وجميع أدرانهم الظاهرة، ثم يشربون من العين الثانية فتطهر كل ما في بواطنهم وأمعائهم من أمراض وعلل، فيدخلون الجنة على غاية ما يكونون صحة وصفاءً ونوراً وراحةً وإشراقاً.
فأهل الجنة يحدث لهم ما قصه الله علينا في أيوب عليه السلام الذي طال به العذاب والمحنة إلى أن دعا الله تعالى أن يرفع ما به من ضر، فقال له: ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾ [ص: ٤٢]، فركض برجله فنبعت عين عند رجله اغتسل منها فأزالت كل أمراضه ثم ركض برجله فنبعت عين فشرب منها فطهرت جميع باطنه، وهكذا أصبح أحسن الخلق جمالاً وكأنه عاد إلى شبابه الأول، بل أحسن وأكمل وأصح.
قولهم: ﴿طِبْتُمْ﴾ [الزمر: ٧٣]، دعوا لهم بالطيب وبالراحة والسعادة والسلام، وأخبروهم أن أيامهم ستكون في الجنة سعيدة لا عذاب فيها ولا شقاء ولا ألم.
قال تعالى: ﴿فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ [الزمر: ٧٣]، فالجنة مثوى المؤمنين، ويستقبل المسلم داخل الجنة زوجتاه الإنسيتان وسبعون من الحور العين فيقلن له: نحن الخالدات فلا نموت، نحن المنعمات فلا نمل، نحن المقصورات عليك.


الصفحة التالية
Icon