تفسير قوله تعالى: (حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم)
قال الله جل جلاله: ﴿حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ [غافر: ١ - ٣].
هذه سورة مكية تشتمل على خمس وثمانين آية كلها نزلت على قلب نبينا عليه الصلاة والسلام من الروح الأمين جبريل عليه السلام عن الله جل جلاله، ومنها بضع آيات -اثنتان أو ثلاث- هن مدنيات.
وتسمى سورة المؤمن، وتسمى سورة غافر، وسميت سورة المؤمن لما فيها من ذكر المؤمن ومقامه ومكانته، وسميت سورة غافر باسم الله الغافر المذكور في بداية السورة، وهو من باب تسمية الكل باسم الجزء، والسور التي مضت معنا كلها كذلك، وعلى هذه الطريقة وهذا المنوال تسمى الآية ببعض ما فيها.
قال عنها ابن مسعود وابن عباس وجماعة من التابعين رضي الله عنهم: لكل شيء لب ولباب القرآن سورة المؤمن، وقالوا عن سور (حم): الحواميم عرائس القرآن الكريم، وقالوا عنها: هي روضات وجنات القرآن، وقالوا عنها: هي ديباجة القرآن، وذلك لما اشتملت عليه هذه السور الكريمة من ذكر لصفات الله جل جلاله، وما أعد الله للمؤمنين، وما أوعد به الكافرين، ولما فيها كذلك من نعوت وصفات لذات الله جل جلاله العلي الكريم، وفي سنن أبي داود ومسند البزار وجامع الترمذي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ آية الكرسي وأول سورة حم يعصمه الله في ذلك اليوم من كل سوء)، آية الكرسي معروفة، وبداية هذه السورة غافر قوله: ﴿حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ [غافر: ١ - ٣]، من قرأها في يومه وقرأ معها آية الكرسي صانه الله وحفظه، وجنبه كل سوء في ذلك اليوم.
﴿حم﴾ [غافر: ١] حاء وميم من الحروف المقطعة في أوائل السور، وقد مضى تفسيرها وشرحها وبيانها ابتداءً من سورة البقرة إلى هذه السورة المباركة، وقد قالوا: هي أسماء من أسماء الله ذي الجلال والإكرام.
وقالوا: هي رموز لمعان، وأتينا بتفسير الزمخشري ومن كان له من معاصرين، وحققنا قولهم في أن الحاء والميم وهذه الحروف المقطعة التي افتتحت بها السور أو كثير من السور هي من حروف الهجاء العربية، وكأنها جواب لمن يسأل: لمَ الإعجاز في القرآن؟! فالقرآن نزل بلغة العرب، ولغة العرب يتقنها الكثير من العرب وغيرهم، منذ كان العرب في الدنيا، فما الإعجاز؟ وكأن
ﷺ القرآن الكريم -وهو كلام الله ذي الجلال والإكرام- ركب ونظم من هذه الحروف؛ حروف التهجي العربية، ومع ذلك فإن هذه الحروف التي ركب منها القرآن تعرفونها وما استطاع أحد منكم أن يعارض القرآن ويتكلم بمثل فصاحته وبلاغته وإعجازه، فليصنع إن شاء، ولو شاء لما استطاع ولرجع بخفي حنين ذليلاً خاسئاً؛ لأن كلام الله جل جلاله بينه وبين كلام غيره من المخلوقين ما بين الخالق والمخلوق، ولو أن ذلك بلغة العرب التي يتقنها أهلها ومتكلموها، ومع ذلك فالنظم ذلك وبلاغة ذلك، وإعجاز ذلك في اللفظ والمعنى ما يعجز عنه كل فرد ملائكة وجناً وإنساً، وقد تحدى الله وقت نزول القرآن على أن يأتي الناس والجن بمثل هذا القرآن ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، وقد جئنا نحن بعد نزوله بـ (١٤٠٠) عام، فكان هذا الإعجاز المعجزة الأولى والدائمة السرمدية إلى يوم القيامة من معجزات القرآن، وأن الأمر كما تحدى الله وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد مضت كل هذه القرون والتعجيز لا يزال قائماً، والبشر والخلق كلهم لا يزالون عاجزين، وقد حاول مجانين ضائعي العقل قبل أن يكونوا ضائعي الدين أن يقولوا مثل ذلك، لقد حاول ذلك الكذاب المتنبئ مسيلمة الكذاب فأتى بالقول المضحك الذي يضحك الثكالى، وجاء بمثل ذلك فيما زعموا المعري، ومع ذلك فقد جاء بالقول المضحك الذي لا يكاد يقبله عاقل فضلاً عن الاعتراف بفصاحته وبلاغته فكيف بإعجازه.
هذه الحروف منها ترتب القرآن، وهو مشتمل على هذه الحروف، ولم يأت بسواها ولم ينطق إلا بها، فمن استطاع فليفعل، وهيهات هيهات لقد أعجزه الله جل جلاله، وعجزت كل هذه القرون أن تأتي بسورة مثله.
﴿تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [غافر: ٢] الكتاب إذا أطلق فلا ينصرف إلا إلى القرآن الكريم، هذا الذي نتشرف بمدارسته وببيانه وبتفسيره في هذا المكان المقدس في بيت الله الحرام باتجاه الكعبة المشرفة، وهذا القرآن الكريم هو تنزيل من الله العزيز العليم، فالله هو الذي نزله، وهو الذي قاله، وهو الذي تكلم به، وهو الذي أوحى به إلى محمد سيد الأنبياء وخاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم، نزل به إليه الروح الأمين عن الله جل جلاله، فهو كلام الله الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكل من شك في ذلك -فضلاً على الإنكار- يكون كافراً حلال الدم، إن كان مسلماً فقد ارتد، وإن كان كافراً من الأصل فهو كافر على كل اعتبار، ولا يزيده ذلك إلا كفراً وبعداً عن الله، وإصراراً على الجحود والكفر.
﴿تَنزِيلُ الْكِتَابِ﴾ [غافر: ٢] أي: تنزيل القرآن ﴿تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [غافر: ٢]، وهو منزل من الله على قلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [غافر: ٢] العزيز الذي لا يغالب، والعزيز الذي لا يظلم أحد في جنابه، والعزيز الذي من اعتز به عز، ومن اعتز بغيره ذل كما أخبر نبينا صلى الله عليه وعلى آله، (العليم) بكل شيء، ما خفي وما أعلن، ما بقي في الضمائر والنفوس ولم يتحدث به لسان، وما نطق به، وما أعلن، وهو العليم جل جلاله بما كان وما يكون، وما لو كان كيف يكون، هذا العليم جل جلاله هو الذي أنزل من علمه على قلب نبيه وعقله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وهذا المعنى مما يكرر ومما يؤكد ومما يذكر بعد بضع آيات وفي كثير من السور وفي كثير من الآي، وهو ما وصف به كتاب الله، وأنه متشابه مثاني، أي: يثنى ويكرر؛ تبعاً للقاعدة العربية: ما تكرر تقرر، فالشيء إذا تكرر أصبح قراراً ثابتاً، ويصبح قاعدة لا تقبل نزاعاً ولا جدالاً، وهذا من ذاك.
فالقرآن الكريم هو كلام الله جل جلاله بجميع آيه وحركاته ووقفاته وسوره، والكل أنزل من الله على نبيه صلى الله عليه وسلم، كما أنزل كتباً قبله على رسل آخرين، كالزبور والتوراة والإنجيل على داود وموسى وعيسى عليهم وعلى نبينا أفضل الضلاة وأزكى السلام.