تفسير قوله تعالى: (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا)
قال تعالى: ﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ﴾ [غافر: ٤].
يقول ربنا لهؤلاء المشركين: ألا يجادلوا ولا ينازعوا ولا يتلاعبوا بالقول بلا دليل ولا برهان، بمثل ما يقوله المشركون للأنبياء: هل يكون النبي بشراً؟ لِمَ لم يكن النبي ملكاً؟ ولِمَ يأكل النبي الطعام ويمشي في الأسواق؟ ولِمَ النبي لم تكن معه ملائكة تصدقه؟ ولِمَ لا تفجر له أنهار وأرزاق تكون له؟ فيجادلون بمثل هذا الجدال والكلام الباطل، وبمثل هذا الغث من القول الذي لا يعود على صاحبه إلا بالكفر، وبتشتيت العقل، وبالإصرار على الوثنية والشرك بالله، فهذا هو الجدال المحرم.
وفي مثله يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (المراء في القرآن كفر)، فالذي يحاول أن يجادل ويقول: لِمَ أنزل القرآن على زيد ولم ينزل على عمرو؟ ولِمَ نزل بلغة العرب ولم يكن بلغة فارس؟ ولماذا نزل منجماً على ثلاث وعشرين سنة ولم ينزل في سنة واحدة؟ فهذا كلام لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا يوجد له دليل عقل أو دليل برهان، فهذا الذي قاله الكافرون الماضون، ويقوله الكافرون الحاضرون هو جدال وغث من القول، يضحك الناس على قائله، ويدل على سخافة عقله وفهمه وإدراكه، ولكن المحاورة والاستجابة والاستنزال على الحق هي التي أتى بها القرآن، كقوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: ٢٢]، ولعلا بعضهم على بعض، فلو كان للأرض عدة آلهة لحاول بعضهم أن يعلو على بعض، كما تعلو الدول والملوك المتجاورة على بعضها، وكما يعلو القوي على الضعيف، وهذا كلام حق، ولطلب هذا الموت ولأمر هذا بالحياة، فإن تم ذلك لزعزعت الأرض، ولهلك الكون، ولحار الناس ما يصنعون، فالحوار يكون بالعقل وبالدليل والبرهان بميزان كتاب الله وعلى أساسه.
وقد دعا النبي ﷺ الخلائق إلى الإيمان بالله، كأن نقول: زعموا أن النبي عليه الصلاة والسلام كاذب -وحاشاه من ذلك- مع اعترافهم أنه عاش بينهم أربعين عاماً ولم يكذب كذبة على الناس، أيكذب بعد أن بلغ الأربعين على الله؟ بل كانوا يلقبونه بالأمين والصادق، وهو رجل عاش بينهم أمياً لا يقرأ ولا يكتب مدة أربعين عاماً، وإذا به في يوم من الأيام يصبح يعلم من العلوم من أولها وآخرها: علوم الأولين والآخرين، فمن أين ذلك؟ ومن الذي علمه؟ ومن أفهمه؟ فهذا دليل عقلي على أنه رسول من الله خاصة، وقد جاءهم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (وأنا في غار حراء أتحنث إذا بملك جاءني فقال لي: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فكررها ثلاثاً، ثم ضمني إليه حتى كادت ضلوعي تتداخل بعضها في بعض، فقال لي: اقرأ، ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ [العلق: ١ - ٢]).
هذا الذي أتى به القرآن بدليل العقول هو ما يؤكده العقل والبيان والفهم والعلم، وأما الجدال: لم أتى محمد بالنبوة ولم يأت بها أبو لهب؟ وقولهم: لِمَ لم ينزل القرآن على عظيم من القريتين: وهما مكة والطائف؟ فأجاب عليهم الله: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ﴾ [الزخرف: ٣٢]، ومن قال لهم: إن أبا لهب عظيم؟! ومن قال: إن أبا جهل عظيم؟! فالعظمة يجعلها الله فيمن يشاء من عباده، قال تعالى: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٤]، فلستم أنتم من تقسمون رحمة الله، فالاستدلال بالدليل والبرهان هو ما جاء به القرآن، وأتى به الرسول عليه الصلاة والسلام.
وأما الجدال فهو من الجدل، وهو الكلام المبني على غير دليل ولا منطق ولا عقل.
﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [غافر: ٤] فهم الذين يجادلون بالغث من القول، وبالباطل من الاستدلال، وهم الذين يقولون مثل هذا الكلام: لم لم يُزل جبال مكة؟ ويقولون: لِمَ لم يفجر أرضها أنهاراً؟ ولِمَ كان محمد وهو من البشر ولم يكن النبي ملكاً؟ ولِمَ لم تنزل الرسالة على عظيم من القريتين؟ وهذا كله غث من القول، وجدل باطل، وقد دل على عقول هؤلاء الضعفاء، وهو الجدال الذي كرهه الله، وزيفه الله، ومنعه، وهو الذي قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام: (جدال في القرآن كفر)، فلا جدال في آيات الله، قال تعالى: ﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [غافر: ٤]، فلا يجادل بمثل هذا الغث من القول، وبمثل هذا الباطل من الكلام إلا الكافرون.
يقول ربنا: ﴿فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ﴾ [غافر: ٤]، وكأن إنساناً يسأل ويقول: إن كان أمثال هؤلاء كافرين فلِمَ أغناهم وخصهم الله؟ ولِمَ ملكهم وغلبهم الله؟ قال الله لنا في مثل هذا: ﴿فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ﴾ [غافر: ٤] أي: لا تغتر بهذا، إن هو إلا ذكرى واستدراج لزيادة العذاب، فتنقلهم وسياحتهم وسفرياتهم للتجارة وللزراعة، وللضرب في الأرض، وللتحكم والظلم والقهر ما ذلك إلا استدراج يستدرجهم الله جل جلاله؛ ليزدادوا عذاباً ويزدادوا عقوبة، وتكون الحجة البالغة لله، وقد أمهلهم ولم يهملهم، فقد أعطاهم سنوات مهلة لعل الكافر أن يؤمن، وإذا بالسنوات لم تزدهم إلا كفراً، ولم تزدهم إلا إصراراً على الكفر، وهو ما يسمى الاستدراج، وهي فتنة فتنهم الله وابتلاهم واختبرهم بها، فمن سبقت له العناية من الله تنبه وتاب وأناب وعاد إلى الله، ومن اغتر بذلك وقال: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾ [القصص: ٧٨] وبمعرفتي، وبعقلي، وبدهائي، وقد أعطاني الله ما أعطانيه في الدنيا، وهو سيعطيني يوم القيامة أكثر مما أعطاني في الدنيا، فذلك من تلاعب الشيطان به، ومن ضياع عقله، ومن ذهاب إيمانه.