تفسير قوله تعالى: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم)
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ [غافر: ٧].
يقول ربنا جل جلاله: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ [غافر: ٧] الملائكة عباد الله المكرَمين الذين يطيعونه ويمتثلون أمره، ويكونون عند أمره ونهيه جل جلاله، والملائكة الذين يحملون العرش هم ثمانية، فالذين من حول العرش ومن يحمل العرش على عواتقهم هم ثمانية، فهؤلاء ليسوا كالكفار، أي: اقتدوا بهؤلاء: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [الأنعام: ٩٠].
﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ [غافر: ٧] أي: يعظمون ويجلون ربهم، ويسبحون بحمده، وينزهونه ويعظمونه ويقدسونه، يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبوح قدوس رب الملائكة والروح، ويقولون هذا وهم يطوفون ويدورون كما نطوف بالكعبة، فهم يطوفون بعرش ربهم، ويحمله ثمانية.
والثمانية وصفوا من الهيبة والكِبَر والعظم أن ما بين كل أذني واحد كما بين السماء والأرض.
والثمانية وهم يحملون عرش ربهم، لا يرفعون أبصارهم عن الأرض قط؛ هيبة وجلالا وخوفاً من الله وجلاله، واسمهم الكروبيون وتجدهم بين طائفتين: فالذين يحملون العرش على رءوسهم يضعون أيديهم على عواتقهم، والذين يطوفون حول العرش يجعلون أيمانهم على شمائلهم، كما نفعل في الصلاة.
وهم يسبحون ربهم بهذه الصيغ السابقة وغيرها من الصيغ، يقولون: لا إله إلا الله، ويقولون: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، وغيرها من أنواع الذكر لله، ما نعلم وما لا نعلمه، وكله تقديس، وكله تعظيم، وكله إكبار وإجلال لله جل جلاله.
والعرش له كرسي، فقد قال نبينا عليه الصلاة السلام في هذا الكرسي أنه أمام العرش كحلقة ملقاة في الأرض، والدنيا بالنسبة للكرسي هي هذا الخاتم فكبر الكرسي أمام كبر الكون ككبر الأرض على الخاتم، فالعرش أعظم من الكرسي الذي الكون بالنسبة إليه كخاتم ألقي في فلاة.
والكرسي هو خلق من خلق الله، وما بين كل سماء وسماء مسافة خمسمائة عام، ما بين الأرض والسماء الدنيا مسافة خمسمائة عام، فلو ذهب الإنسان طائراً فلا يصل إلا بعد خمسمائة عام، والعام هل هو من أعوام الدنيا أو غيره، الله أعلم بذلك، فعام الدنيا اثنا عشر شهراً، والشهر فيه ثلاثون يوماً، واليوم فيها أربع وعشرون ساعة، ويوم الآخرة ألف سنة مما تعدون.
فلا ندري هل الخمسمائة سنة من سني أهل الأرض، أم من أعوام الآخرة أو أعظم من ذلك.
وما بين كل سماء وسماء كما بين الأرض والسماء، وفوق السماء السابعة العرش، علو من السماء الأولى إلى السماء السابعة، وحين أسري بنبينا ﷺ ووصل إلى سدرة المنتهى وقف جبريل، وقال: أنا لا أزيد أكثر من ذلك، فزاد نبينا عليه الصلاة السلام حيث لم يزغ: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾ [النجم: ١٧].
وقد تخطى ذلك بكل ثبات وصمود، فموسى وهو من الخمسة أولي العزم من الرسل عندما طلب رؤية ربه قال الله له: ﴿وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾ [الأعراف: ١٤٣].
ما استطاع موسى أن يصبر لتجلي الله للجبل، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام رأى من آيات ربه ما رأى، ومع ذلك لم يزغ بصره، ولم تضطرب نفسه أو أعضاؤه، وبقي ثابتاً.
وجبريل قال: أنا لا استطيع أن أزيد أكثر من ذلك، فوصل النبي إلى حيث سمع صريف الأقلام في اللوح المحفوظ، حتى أمره ربه مكالمة بلا ملك، فأمره بالصلاة خمسين صلاة في اليوم والليلة، إلى آخر القصة، حيث رجع إلى السماء السادسة ولقي موسى فقال له: ارجع إلى ربك؛ فقد عاشرت الناس قبلك فقومك لا يستطيعون، وبقي يذهب ويصعد ويمضي إلى أن وقفت إلى خمس صلوات، فقال: (هي خمس في العدد وهي خمسون في الآخرة، لا يبدل القول لدي) فهي خمس في العمل، وهي خمسون من حيث الأجر والثواب؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها.
وقد سبق أن قلت في أكثر من مناسبة: اللوح لوحان: لوح من قبل الملائكة يتلقون منه الأمر والنهي، ولوح من قبل الله، وهذا الذي من قبل الملائكة يقول الله عنه: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾ [الرعد: ٣٩]، ويقول عن اللوح الثاني: ﴿وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [الرعد: ٣٩].
ويقول عن أم الكتاب: ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ﴾ [ق: ٢٩]، وهذا الأخير لا يختلف زيادة ولا نقصاناً، واللوح الذي من قبل الملائكة فيه الزيادة والنقصان، ومن هذا ما فيه من الأحاديث مثل: (الصدقة تدفع غضب الرب)، وقوله: (صلة الأرحام تطيل الأعمار)، (والصدقة تطيل العمر والدعاء لأخيك في ظهر الغيب مستجاب، ودعاء الوالد لولده في ظهر الغيب كذلك)، هذه الزيادة في العمر أو النقص تكون في اللوح الذي من قبل الملائكة، وأما الذي من قبل الله الذي يقول عنه: ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ﴾ [ق: ٢٩] فلا يزيد ولا ينقص.
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ﴾ [غافر: ٧] فهم يطوفون ويدورون بالعرش، هؤلاء جميعهم: ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ [غافر: ٧].
قوله: ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ [غافر: ٧].
قال العلماء المفسرون: أنصح خلق الله للإنسان المؤمن الملائكة، وأكثرهم غشاً للإنسان الشياطين، فالشيطان عدو أبينا الأول وأمنا الأولى؛ آدم وحواء، وهو عدونا وعدو ذرياتنا من بعدنا، والملائكة أنصح الخلق لنا، فهم يستغفرون الله لنا، وبيننا ويبنهم ملايين من الأميال.
فهم يحملون عرش ربهم، ويطوفون بعرشه، ويستغفرون للذين آمنوا قائلين: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا﴾ [غافر: ٧].
وهذا النص يقال له نص تفسير، والمعنى: ربنا وسع علمك كل شيء، ووسعت رحمتك كل شيء، وسبقت رحمته غضبه جل جلاله، العالم بكل شيء ما ظهر وما بطن، وما أعلن وما أخفي، فمع حلمه وسعة رحمته كل شيء: المؤمن والكافر، للإنسان وللحيوان والهوام وكل شيء، ومن رحمته بالكافر أنه أمد له في حياته، ورزقه وأعطاه؛ لعله يوماً يتذكر ويقول: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين.
﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ [غافر: ٧].
إذاً فالمرجع مبني على التوبة، فهم يدعون للمؤمنين الذين تابوا من الشرك، ولا مغفرة من الشرك إلا بالرجوع عنه.
﴿لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ﴾ [غافر: ٧] أي: واتبعوا دينك الذي أرسلت به رسلك وأنبياءك، أي: المؤمنين الموحدين.
﴿وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ [غافر: ٧] أي: عذاب النار، وعذاب جهنم، وعذاب الحريق، فأي دعوة أعظم من هذه: أن تُطلب المغفرة من الله، وأن يصلنا الله ويحفظنا، ويجعل لنا وقاية بيننا وبين عذاب النار.
واسترسل الملائكة في الدعاء فقالوا: ﴿رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [غافر: ٨].
يدعون لنا فيقولون: (ربنا أدخلهم جنات عدن التي وعدتهم) أدخل عبادك الموحدين التائبين المستغفرين أدخلهم الجنة التي وعدتهم بدخولها وهم في دار الدنيا عندما آمنوا بك وأسلموا.
﴿رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ [غافر: ٨] فهي جنات وليس جنة واحدة؛ لأن الجنة مراتب ودرجات ومنازل.
﴿رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ [غافر: ٨] أي: جنات إقامة، فعدن بمعنى إقامة، أي: إقامة دائمة خالدة باقين فيها أبداً سرمداً.
﴿الَّتِي وَعَدْتَهُم﴾ [غافر: ٨] فقد وعدتهم بها، وأنت لا تخلف الميعاد.
﴿وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ﴾ [غافر: ٨] أي: من قال: لا إله إلا الله، ومن آمن وخرج عن الكفر، ومن صلح بعد شرك وكفر من آبائهم ومن أزواجهم.
و (من): اسم موصل يطلق على المذكر والمؤنث، وعلى المفرد والمثنى والجمع.
﴿وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ﴾ [غافر: ٨] أي: من آباء المؤمنين التائبين المستغفرين، ومن صلح من أزواجهم، ومن صلح من ذرياتهم وأبنائهم كذلك.
وقد ذكر النبي عليه الصلاة والسلام: أن المؤمنين في الدار الآخرة قد تتفاوت درجاتهم في الجنة، فيفرق بين الزوج وزوجته والأب والولد، وبين الابن وأبيه في درجات من الجنة كما بين الأرض والسماء، فيبحث الولد عن والدة فيجده أقل منه بدرجة، فيقول: يا رب! أكرمتني بالجنة وبالمغفرة، فلتكن زوجتي معي -وهي في الجنة كذلك ولكنها في درجة أدنى-، وكذلك أريد ولدي معي، فيقال له: لم يفعلوا فعلك، ولم يعبدوا عبادتك، فيقول: يا رب! إني عبدتك ووحدتك لتغفر لي، وتلحق بي أولادي، وتلحق بي أهلي، فيستجيب الله له دعاءه، فيرفع الولد للوالد، والزوجة للزوج، والوالد للولد، والحفيد للجد وهكذا دواليك.
وقالوا: إن العرش هو في سمت الكعبة، فكما أن الكعبة يطوف بها المسلمون ليلاً ونهاراً، صيفاً وشتاء، ربيعاً وخريفاً، لا تكاد تفرغ لحظة من زمن، فكذلك العرش، فالملائكة الذين حوله يطوفون يسبحون ويوحدون ويعظمون ويمجدون ربهم.


الصفحة التالية
Icon