تفسير قوله تعالى: (ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم)
قال الله جل جلاله: ﴿رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [غافر: ٨].
يقص الله علينا ما تقوله الملائكة حملة العرش من الكروبيين سادات الملائكة، وأشراف الملائكة، وقد مضى تفسير قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا﴾ [غافر: ٧] أي: يقولون: ربنا وسع علمك ورحمتك كل شيء في خلقك.
﴿فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ [غافر: ٧] أي: يقولون ذلك، ولا يزال السياق فيما يقوله الملائكة، فيقولون: ﴿رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ [غافر: ٨] أي: يقول الملائكة الكرام ذلك ويدعون للمستغفرين وللتائبين وللموحدين المؤمنين، ويستغفرون الله لهم من ذنوبهم، ويدعون الله لهم أن يدخلهم جنات عدن.
قوله: ﴿الَّتِي وَعَدْتَهُم﴾ [غافر: ٨] أي: الجنة التي وعد الله عباده المؤمنين، كما قال تعالى: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ [آل عمران: ١٩٤]، والوعد الذي أتت به الرسل هو دخول الموحدين للجنان، ودخول الكافرين للنيران، وملائكة الله الكرام حملة العرش ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ [الزمر: ٧٥] فيقولون: سبحانك ربنا، ويقولون: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، ويستغفرون للمؤمنين وللذين تابوا، ويدعون ربهم: ((رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ)) أي: أدخل الموحدين المؤمنين ((جَنَّاتِ عَدْنٍ))، والعدن هي الإقامة، أي: أدخلهم جناتك الخالدة، فيقيمون فيها أبداً سرمداً.
((جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم)) أي: وعدتهم بها وهم لا يزالون أحياء، وذاك مما زادهم إيماناً وتشجيعاً وإغراء، فالملائكة -سلام الله عليهم- يدعون للمؤمنين الموحدين بهذه الدعوات الصالحات.
قوله: ((وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ))، من صلح أي: من وحد وآمن وأسلم، فهم يدعون للمؤمنين، وكذلك لآباء المؤمنين من المؤمنين، ولأزواجهم وذرياتهم.
ولذلك يقول سلفنا الصالح: أنصح الخلق للبشر هم ملائكة الله، وأغش الناس للبشر هم الشياطين.
فسادات الملائكة وأشرافهم الملائكة من حملة عرش ربنا وهم ثمانية، وممن يطوفون بالعرش وهم سبعون ألف صف، خلف كل صف سبعون ألف صف لا يحصي عدد ذلك إلا الله خالقهم، يطوفون بالعرش مسبحين معظمين مبجلين ذاكرين، وهم على هذه الحالة يدعون للمؤمنين بالمغفرة وبالتوبة وبدخول الجنان، مجتمعين مع آبائهم ومع أزواجهم، ومع ذرياتهم وأولادهم إلى آخر ذرية منهم.
ويوم القيامة كما يحدثنا نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم شارحاً لكتاب الله، مبلغاً عن الله: بأن المؤمن يدخل الجنة فيقول: أين أبي؟ وأين زوجي؟ وأين ولدي؟ فيقال له: إنهم في درجات أدنى من درجاتك، إنهم عملوا أقل من عملك، فيقول: وهل عملنا إلا لنا ولهم، اجمعنا اللهم بهم، فيستجيب الله له، فيرفع من كانوا أقل درجة إلى أعلى درجة بمن فيها من والد وولد وزوج، ولا ينزل الأعلى درجة إلى الأقل درجة، بل يكرمهم بأن يرفع من هو دون درجة أولئك إلى درجاتهم العلى.
((رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ))، وأدخل كذلك الصالحين المؤمنين من آباء المؤمنين، وأزواجهم المؤمنين، وذرياتهم المؤمنين.
وأما من مات على الشرك فلا يرجى له رحمة، ولا يفيد معه استغفار، وقد حرم الله الجنة على الكافرين.
((إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) تقول ملائكة الله لله جل جلاله وهم يدعون للمؤمنين: إنك يا ربنا أنت العزيز الذي لا ينال مقامه؛ ولا ينال جنابه، وأنت الذي من اعتز بك عز، ومن اعتز بغيرك ذل، وأنت الحكيم في أقوالك وفي أعمالك وفي قدرك، فبفضل منك يا ربنا! اغفر للمؤمنين واجمعهم جميعاً: الآباء والأجداد والذريات والأزواج في مكان واحد، وفي درجات العلو من الجنان، فأنت العزيز وأنت الحكيم.
قال تعالى: ﴿وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ﴾ [غافر: ٩] هذا مما يقوله الملائكة كذلك، (قِ) فعل أمر، من الوقاية، أي: يا ربنا احفظهم وصنهم وادفع عنهم السيئات، فإما أن تدفعها عنهم بألا يفعلوها، وإذا فعلوها أن تحفظهم من وبالها ومن آثامها.
((وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ)) أي: وبال الذنوب والمعاصي، إما أنهم لا يرتكبونها، وإذا ارتكبوها فصنهم واحفظهم، وادفع عنهم سوءها ووبالها وعذابها.
﴿وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ﴾ [غافر: ٩] من تقه السيئات ومن تدافع عنه، ومن تحفظه من السيئات، وتجعل بينه وبينها وقاية من فعلها أو من وبال فعلها.
((يَوْمَئِذٍ)) أي: يوم القيامة.
((فَقَدْ رَحِمْتَهُ)) أي: من وقيته وحفظته من ارتكاب السيئات وآثامها ووبالها، فقد أكرمته وقد رحمته برحمتك، وقد غفرت ذنبه فضلاً وجوداً منك.
قال تعالى: ﴿وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [غافر: ٩] أي: من وقي العذاب، ومن وقي ارتكاب السيئات، ومن حفظ من وبال السيئات وأعمالها فقد أكرمه الله، وقد غفر ذنوبه، وقد كفر سيئاته، وقد رفع درجاته.
((وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) أي: هو النجاح والنصر والفلاح، فلا فوز أعظم من ذلك، ولا رتبة أعلى من ذلك؛ وذلك هو الفوز الدائم، والفلاح السرمدي.


الصفحة التالية
Icon