تفسير قوله تعالى: (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء)
﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر: ١٦].
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ﴾ [غافر: ١٦] أي: اليوم الذي يبرز الخلق فيه أمام الله، فلا يسترهم جبل ولا تلة ولا يحجبهم شيء، فيبرزون لله ويظهرون عراة حفاة غرلاً، في يوم كان مقداره كألف سنة مما تعدون، ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ﴾ [عبس: ٣٤ - ٣٥]، يوم يأتون وكل يقول نفسي نفسي، فلا يسأل الأب عن الولد، ولا يسأل الولد عن الوالد، يوم يأتي الناس وجميع الأمم إلى آدم وهم يقولون: يا أبانا يا آدم! انظر لما نحن عليه من كرب وغم، فيقول: نفسي نفسي.
وهكذا يقول نوح وإبراهيم وبقية الأنبياء بما فيهم عيسى، كل واحد يقول: نفسي نفسي، إلى أن يرشدوا ويقال لهم: (اذهبوا إلى محمد، فيأتون إليه فيقول: أنا لها، أنا لها) فيقع ساجداً تحت العرش وعند ساق العرش، فيدعو الله بمحامد لا يعلمها إلا ذلك الوقت، كما أخبر عن نفسه عليه الصلاة والسلام، ويبقى ما شاء الله أن يبقى، فقد يبقى سنة أو سنتين أو أكثر، فالله أعلم بهذا الزمن خصوصاً، إذا علمنا أن اليوم هناك بألف سنة، فيقال له بعد ذلك: (ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع)، صلى الله عليه وعلى آله.
اللهم اجعلنا من أهل شفاعته وكرامته.
﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ﴾ [غافر: ١٦] أي: في يوم التلاق، يوم الاالتقاء والاجتماع.
﴿لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ﴾ [غافر: ١٦] فهو يعلم ظاهرهم وباطنهم، ويعلم ما تحدث به نفوسهم، وما يهمسون به مع بعضهم، وما يعلنون وما يكتمون، وهو العالم بالأسرار وبالضمائر، وبما تحدث به النفس وما تخفيه.
﴿لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ [غافر: ١٦].
لقد انتهت ملوك الأرض، وانتهت الأساطيل والجاه والبيوت والأموال، وأصبحوا عبيداً، وفي هذه الساعة يقول الله جل جلاله: (أنا الملك، أنا الجبار، أنا المتكبر، أين المتكبرون؟ أين الجبابرة؟ أين ملوك الأرض؟) فعندما لا يجيبه أحد يقول: (أنا الملك، أنا الملك، أنا الملك)، يقول هذا عن نفسه جل جلاله، ولا يجيبه أحد، لأنه لا ملك ولا ملوك.
﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ [غافر: ١٦] أي: يسأل الله فيقول ذلك، فعندما لا يجيبه أحد يجيب نفسه بنفسه فيقول: ﴿لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر: ١٦] أي: لله الواحد الذي لا ثاني له، لا في الوجود، ولا في الملك ولا في شيء من الأشياء، وهو الذي قهر العباد فخلقهم من عدم، وأعادهم إلى العدم، وأحياهم مرة ثانية، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ [الأنعام: ١٨]، فقهرهم بالموت وبالحاجة وبالحساب، ولذلك فالله وحده هو القاهر والجبار، ولم ينازعه أحد من خلقه في ذلك إلا وقصمه الله، ومن يتأله على الله يهلكه؛ لأننا نحن لا نملك أنفسنا، ولم نخلقها ولم نرزقها، فالكل من الله والكل إليه، فهو الذي خلقنا فيتصرف فينا كيف شاء، وهو سيدنا والحكم له، والقضاء له، ولا أحد معه، وكل ما يسع المؤمن أن يستجيب لدعوات الرسل فيقول: لا إله إلا الله مع الموحدين من البشر، فيرجو رحمة ربه، وأن ينال رضا الله وجنة الله يوم القيامة، ومن حصل على ذلك فذلك هو الفوز العظيم.


الصفحة التالية
Icon