تفسير قوله تعالى: (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات)
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾ [غافر: ٣٤].
يقول ربنا جل جلاله لهؤلاء: كان آباؤكم وأجدادكم قد تركوا اتباع الأنبياء وكذبوهم، وأنتم الآن تكذبون موسى وقد سبق أن كذبتم قبله يوسف، فيوسف عندما جاء إلى مصر رقيقاً تبناه عزيز مصر، فكان ما كان إلى أن أرسله الله إلى الأقباط الذين يعيش بينهم، فدعاهم إلى الله فآمن معه كثير منهم بالله، ولم يؤمنوا إيماناً بدينه أو بما أتاهم به من معجزات، ولكن كان ملكاً ذا جاه، وكان أميناً على خزائن مصر، وكان عزيز مصر قد رأى رؤيا فأغمته وأهمته، ففسرها وهو لا يزال في السجن، فجاءهم بالبينات من ربه وهداهم الله إليه، فكان إيمانهم به إيمان الشاك المرتاب كما يقول ربنا: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ [غافر: ٣٤]، وهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، النبي ابن النبي ابن النبي ابن النبي، وقد سأل رسول الله ﷺ يوماً: من الكريم؟ فأخذوا يجولون ويقولون: فلان وفلان وفلان، والرسول ﷺ يقول: لا، إلى أن قال: (الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم).
فهو نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي.
يقول الله لهؤلاء القبط: قد سبق أن كذبتم الأنبياء قبلكم، فقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ﴾ [غافر: ٣٤] أي: جاءكم يوسف بالدلائل الواضحات والمعجزات المعززات لنبوءته المؤكدات لرسالته، قال تعالى: ﴿فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ﴾ [غافر: ٣٤] أي: آمنتم به مع الشك، حتى ولو آمنتم به فلم يكن إلا إيمان الفقير بالغني وإيمان الضعيف بالقوي، آمنتم به وأنتم لا تزالون في شك لم يكن إيماناً يقيناً، بل كان إيماناً مذبذباً مضطرباً، ومعنى هذا: أن يوسف كان نبياً رسولاً، وأكثر أنبياء بني إسرائيل كانوا أنبياء فقط ولم يكونوا رسلاً، والرسل منهم قليل.
فإن قيل: من النبي ومن الرسول؟ ف
ﷺ أن النبي هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، وإنما أنزل عليه ليؤمن به هو ولم يكلف ببلاغ، كما كان الجد الأعلى لبني إسرائيل وهو من يسمى بإسرائيل، فإبراهيم رسول الله وخليل الله، وله ولدان: إسماعيل نبي رسول، وإسحاق كان نبياً ولم يكن رسولاً، ومن هنا كانت أفضلية إسماعيل عليه الصلاة والسلام، ويوسف حسب هذه الآية قد أرسل إلى الأقباط فكان نبياً ورسولاً، وذاك قليل عند أنبياء بني إسرائيل.
فقوله: ﴿فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ﴾ [غافر: ٣٤] أي: لا تزالون بين المصدق والمكذب وبين الموقن والشاك.
قوله: ﴿حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا﴾ [غافر: ٣٤] أي: حتى إذا مات قلتم: لن يبعث الله من بعد يوسف صديقاً رسولاً، وكنتم تتمنون الباطل، وقد جاء من بعد يوسف إليكم رسول صادق أمين من أولي العزم من الرسل.
قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾ [غافر: ٣٤].
أي: يا من أرسل إليهم محمد! كذلك من آمن إيمان الشاك أو صد عن الإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى يفعل بكل مرتاب شاك كما فعل بهؤلاء الذين أرسل إليهم موسى وهارون من أهل القبط.