تفسير قوله تعالى: (وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد)
قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ [غافر: ٣٨].
لزمه هذا المؤمن القريب وأخذ يتحداه ويتتبع عثراته وجنونه وفساد عقله، ويقول إيماناً ويبطل قوله أمام الحاضرين وهم يسمعون، سواءً قبل ذلك فرعون أو لم يقبل، وإن شاء أن يقتله فرعون فليقتله، فقد آن الأوان ليعلن كلمة الحق، ومن هنا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)، وقال عليه الصلاة والسلام: (سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى سلطان جائر فأمره ونهاه فقتله).
ففرعون أراد أن يستدل ويبرهن في مجلس عام جامع على صدق ألوهيته وصواب رأيه، فسلط الله عليه قريباً ظنه أنه معه وأنه متعلق به، وإذا به يظهر أنه يحتقره ويكفر به، وأنه مؤمن بموسى وهارون، وأنه عبد صالح كان أحق منه بالملك وبالحكم وبهداية الناس.
قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ [غافر: ٣٨] أي: أنا الذي سأهديكم سبيل الرشاد لا فرعون الكاذب المتأله على الله عندما قال لكم: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ [غافر: ٢٩]، فهذا يقول: اتبعون يا قومي، وآمنوا بما آمنت به، وكذبوا فرعون وقولوا عنه: ضال مضل، وآمنوا بموسى وقولوا عنه: عبد الله ورسوله، وآمنوا بالله الواحد الذي تنزه عن كل نقص واتصف بكل كمال ولا يشبه أحداً من خلقه، لا كما زعم هذا الضال الأرعن أنه سيجد رب موسى في السماوات، وليس بينه وبين ذلك إلا أن يبني له هامان صرحاً يصعد عليه فيبحث عنه فيجده! فقوله: ﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ﴾ [غافر: ٣٨] أي: كونوا أتباع كلامي وانتصحوا بنصيحتي وبهدايتي، قوله: ﴿أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَاد﴾ [غافر: ٣٨] أي: أهدكم طريق الحق والصواب لا الطريق الذي يزعمه هذا الأفاك المشرك المرتاب المتأله على الله، ولا طريق أتباعه كـ هامان وقارون.
ثم قال: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾ [غافر: ٣٩] أي: يا قوم هذه الحياة لو كان يملكها فرعون فما هي إلا متاع ومتعة في زمن قصير، وتنتهي المتعة وتنتهي الحياة معها وكأنها لم تكن، فهذه الحياة الدنيا الدنية الفائتة هي كلها بمصرها ومشارقها ومغاربها ومؤمنيها وكفارها ومن يدعي الملك والجبروت والطغيان ليست إلا ساعة متعة: إما لذة مع زوجة، أو أكل فاكهة، وبعد ذلك انتهت وكأنها لم تكن، فلا تهتموا بها ولا تلتفتوا إليها، كيف وفرعون إنما ادعى المتعة بقطعة من الأرض ليست إلا جزءاً من آلاف الأجزاء من الأرض ومع ذلك فهو ضال فاجر جبار كافر بالله متأله على الله وعلى رسله، فقد استباح الدماء والأعراض والحقوق، وما يزيده ذلك إلا طغياناً وكفراً.
قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾ [غافر: ٣٩] أي: الحياة الثانية والأخيرة هي الدار التي يقر الإنسان فيها قراراً أبدياً سواء قر في الجنة أو قر في النار، فالآخرة دار القرار والخلود والأبد، فمن سعد فيها سعد سعادة لم يشق بعدها أبداً، ومن شقي فيها شقي شقاء لا يسعد بعده أبداً، فلذلك اليوم اعملوا، ولا يغرنكم فرعون وكفره وطغيانه وتألهه.