تفسير قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها)
قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا﴾ [مريم: ٧١].
قوله: (وإن منكم) أي: ليس منكم من أحد برٍ أو فاجر، مسلم أو كافر إلا ويرد على النار ويمر عليها، ثم ينجي الله كل واحد بعمله، قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا﴾ [مريم: ٧١]، فكان ورود هؤلاء أبراراً وفجاراً على ربك حتماً مقضياً، أي: أوجب ذلك على نفسه فأقسم عليه بذاته العلية، وكون كل إنسان سيدخل النار هي عقيدة المسلمين جميعاً، وينكرها الكثير من الطوائف المبتدعة من المسلمين، مثل نافع بن الأزرق وكان من الخوارج، وكان يسأل ابن عباس عن آيات القرآن وعن بيانها وتفسيرها من اللغة والسنة، فقال نافع: يا ابن عباس! قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾ [مريم: ٧١] من الوارد؟ قال: أنا وأنت، قال: لا؛ يردها الكافر، قال: أنا وأنت، أما أنا فسأخرج منها، وأما أنت فستبقى فيها لتكذيبك، فضحك نافع.
ويعتقد هؤلاء أن الآية خاصة بالمشركين، ولكن الأحاديث الصحيحة المتظافرة تؤكد هذا المعنى، يقول عليه الصلاة والسلام: عندما يحشر الناس يوم القيامة: (يضرب ما بين الجنة وبين النار صراط، هو أحد من السيف، على جانبيه كلاليب تحملها الملائكة، وهذا الصراط مدحضة مزلة) أي: لا تكاد تقر عليه رجل الإنسان، فيجد نفسه أنه لا يستطيع أن يستقر عليه، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أما أنا فسأكون أسرعكم مروراً عنه، فسأمر عليه مرور الريح المرسلة، وتمر عليه الأنبياء كذلك، وسيمر عليه الصالحون وعباد الله المتقون: بعضهم كأجاويد الخيل، وبعضهم كالمسرع من الدواب، وبعضهم كالمسرع من الإنسان، وبعضهم يمشي عليه حبواً فيقف ويسقط، والبعض لا تكاد تقف رجلاه حتى يسقط في قعر جهنم، وتأخذه الملائكة بالكلاليب وتسحبه إلى النار، وتقول الملائكة والمؤمنون والأنبياء والصالحون والشهداء: اللهم سلم سلم) أي: يكون دعاء الملائكة ودعاء رسول الله ﷺ وهم يمشون على الصراط: اللهم سلم، اللهم سلم.
فهذا الحديث متواتر، وقد تواترت الرواية فيه عن الجماهير من الصحابة، ومما يؤكد ذلك: أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ما من إنسان يموت له ثلاثة من الولد إلا وأنجاه الله من النار إلا تحلة القسم)، وتحلة القسم هي قسم الله أن يرد النار كل إنسان، ولتحليل يمينه جل جلاله يمر هؤلاء عليها مروراً لا تكاد تؤذيهم ولا تمسهم، ولكنهم مع ذلك يدخلونها ويمرون عليها.
فقوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا﴾ [مريم: ٧١] أي: سبق في علمه السابق أنه من الحتم المقضي القائم الواقع أن يدخل كل إنسان براً كان أو فاجراً إلى النار، كما قال تعالى بعد في الآية: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا﴾ [مريم: ٧١] أي: واجباً وقائماً واقعاً.
والآية الثانية تؤكد هذا المعنى، إذ يرد النار كل إنسان سواء كان مؤمناً أو كافراً براً أو فاجراً، أما التقي الصالح فقال تعالى: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ [مريم: ٧٢]، ولا تكون النجاة إلا من الوقوع في تهلكة، ثم تقع النجاة، فهم قد وردوا النار ولكن الله نجاهم لتقواهم وصلاحهم.
فقوله تعالى: ﴿وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾ [مريم: ٧٢] أي: نترك وندع الظالمين لأنفسهم بالكفر والشرك جاثين على ركبهم، إذ لا يكادون يجدون مستقراً زيادةً في النقمة والعذاب والآلام، ولما في النار من الزحام الشديد لا تكاد تحمل من فيها وهي مع ذلك تطلب المزيد، فيضع عليها الرحمان قدمه، فتقول: قطني قطني.
وأما الجنة فيبقى فيها فراغ كثير، فيخلق الله لها خلقاً ليتمتعوا ويؤنسوا المؤمنين.


الصفحة التالية
Icon