تفسير قوله تعالى: (فاصبر إن وعد الله حق)
قال ربنا جل جلاله: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ﴾ [غافر: ٥٥].
قوله: (فاصبر) توجيه من الله جل جلاله لنبينا عليه الصلاة والسلام وقد عصاه وتمرد عليه الكثيرون ممن دعاهم إلى الله، وكذبه من كذبه، وقيل عنه ما قيل، سواء في جزيرة العرب أو في خارجها، فيأمر الله جل جلاله نبيه عليه الصلاة والسلام بالصبر عليهم، فإن العاقبة له، وإن النصر لرسل الله، وأعداؤهم سوف يعاقبون على مخالفتهم أشد عقاب، إلا من اهتدى وآمن وأسلم واستسلم.
والصبر قد دعا الله في غير ما آية من الآيات رسله والمؤمنين إليه، وخص ذلك في سورة فقال سبحانه: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: ٢ - ٣].
وانتظار الفرج بالصبر عبادة، وكان مما أمر به عليه الصلاة والسلام أن يصبر على قومه، فصبر عليهم في مكة المكرمة اثنا عشر عاماً، وقد كذبوا وحاربوا وقاتلوا وألبوا وتآمروا عليه، ولكن النهاية كانت بنصره وبفوزه، وبسحق أعدائه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومع ذلك قالوا: إن آية الصبر وما ورد في الصبر كل ذلك كان قبل الأمر بالجهاد، فقبل الأمر بالجهاد أمر الله نبيه وأتباعه بالصبر، ثم نزلت أول آية في القتال وهي قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج: ٣٩]، فكان القتال الذي أذن الله به لنبيه ﷺ وللمؤمنين بعدما كانوا مظلومين، ويراد إخراجهم من أرضهم، وإرجاعهم عن دينهم، والاعتداء عليهم، وكان كثيراً ما يأتي أصحابه ويطلبون منه القتال، فيقول: لم نؤمر بذلك، وكان يمر على أصحابه وهم يقاتلون ويعذبون، ويمر على الأسرة كلها أحياناً وهي كذلك، كما مر على عمار وعلى أبيه ياسر وعلى أمه سمية فيقول لهم: (صبراً آل ياسر إن موعدكم الجنة).
ولم يكن يملك غير ذلك، وكان صبوراً متأنياً منتظراً ﷺ إلى أن نصره الله النصر العزيز المؤزر، وأذن له في القتال والكفاح والحرب عندما انتقل مهاجراً إلى الله إلى المدينة المنورة، فهاجمه أعداؤه فقاومهم وحاربهم فكانت العاقبة له، فخاطبه الله بقوله: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ [غافر: ٥٥] أي: ما وعدك به ربك من النصر ومن الفوز، ومن سحق الأعداء، ومن ظهور دينك وانتشاره في مشارق الأرض ومغاربها، كل ذلك حق فلا تستعجل، وانتظر واصبر فالعاقبة لك.
كما قال سبحانه: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾ [غافر: ٥١]، أي: وفي الآخرة.
وكان وعد الله حقاً، والله لا يخلف الميعاد، فهكذا كان، أي: صبر ﷺ دهراً، ثم بعد ذلك حقق الله وعده، فنصره وأخرج عدوه، وملك جزيرة العرب، وعاد لمكة التي أخرجه أهلها ظلماً وعدواناً مرفوع الراية منصوراً مظفراً حكم في أعدائه، ومع ذلك غلبت رحمته نقمته وعداءه عليه الصلاة والسلام، واجتمع إليه كفار قريش بعد أن نصره الله وفتح مكة، وقال لهم: (ماذا ترون يا معاشر قريش! أني فاعل بكم؟) وإذا بهم أخذوا يتمسحون، وحاولوا أن ينسوه ما صنعوه معه: من إخراجه من أرضه، وتعذيب أصحابه، وشتمهم له من قولهم عنه: ساحر ونحوه.
ومع ذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام تفضل عليهم وقال لهم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، فأطلقهم من عقوبته ونقمته، فهدى الله من هدى فآمن وأسلم، وشرد من شرد وفر من فر، فعل هذا فيهم جميعاً إلا أربعة عشر منهم قال فيهم: (اقتلوهم ولو وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة)، وكان منهم ثمانية رجال وست نسوة.
وهؤلاء تجاوزوا حدهم في الكفر، وفي الصد عن بيت الله وعن دينه.
وقد كان وعد الله لنبيه كما أخبر، فملك جزيرة العرب، وأصبحت كلها مسلمة، وأخذ في قتال الروم في غزوة تبوك على حدود أرض الشام، وهي إذ ذاك أرض رومية، فلم يكن قتال ولم يحضروا له.
وقبل ذلك أرسل سرية بثلاثة من قواده، أولهم جعفر بن أبي طالب، ثم زيد بن حارثة، ثم عبد الله بن رواحة، فاستشهد الثلاثة قائداً بعد قائد وأميراً بعد أمير، إلى أن ولي خالد.
ولم يكن في تبوك قتال إلا بما لا يكاد يذكر، وأوصى بالقتال ما بعد ذلك، وعين أسامة بن زيد أميراً، وهو ابن القائد الثاني الشهيد في غزوة مؤتة، فجهزه للخروج وكان النبي ﷺ عندما حان الحين وآن الأوان لإنقاذ الجيش قد ذهب إلى الرفيق الأعلى.
فأرسل أبو بكر أسامة بن زيد لقتال الروم في مؤتة، ولكنهم كذلك لم يأتوا، وظنوا أن الإسلام قد انتهى بموت النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن هيهات فالأمر كما قال أبو بكر: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وهو قد جاء لعبادة الله لا لعبادة نفسه، قال تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٤٤].
وبعد الموت النبوي وذهاب النبي للرفيق الأعلى، قام أصحابه وخلفاؤه أبو بكر أولاً ثم عمر بنشر الإسلام في أرض الروم وفارس، وإلى أرض البربر، وما كادت تتم خمسون سنة على ظهور الإسلام والنبي عليه الصلاة والسلام حتى أصبح الإسلام شرقاً في الصين والهند والسند، وغرباً إل عمق أرض فرنسا وما بينهما.
فكان ما وعد الله حقاً، كما قال ربنا جل جلاله: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ [غافر: ٥٥]، أي: اصبر صبر من هو متيقن بأن الله ناصره ومذل عدوه، وكان الأمر كما قال ربنا جل جلاله.
وقوله تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [غافر: ٥٥] يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: استغفر يا محمد! لذنبك، واطلب المغفرة والتوبة من ربك.
وقوله تعالى: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ﴾ [غافر: ٥٥]، وأكثر التسبيح والشكر لله على ما وعدك من نصر، وما سيحقق لك من نصر، على ما أكرمك به الرسالة ومن نبوءة جعلها عامة حين لم إلى الأبيض والأسود والأحمر، بين المشرق والمغرب، والعرب والعجم، إلى يوم القيامة، فلا نبي ولا رسول بعدك، فأنت نبي من عاصرك ونبي من يأتي بعدك إلى يوم القيامة.


الصفحة التالية
Icon