معاتبة الله لنبيه في عفوه عن أسرى بدر
فعاتبه عقب غزوة بدر عندما أخذ الجزية من الأسرى وأطلق سراحهم، فقال له: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ﴾ [الأنفال: ٦٧]، وكأنه قال له: ما كان ينبغي لك يا بني يا محمد -صلى الله عليه وسلم- أن تأخذ الجزية من الأسرى وأنت تعجز أن تهزم عدوك، فلم تسحقه ولم تقض على قادته، ولم تقض على المخططين له، ويوشك إن فعلت ذلك أن تكون العاقبة عليك لا لك؛ لأن الذي حدث في هذه المعركة أن النبي عليه الصلاة والسلام أسر اثنين وسبعين قائداً من قواد قريش، وكان فيهم قادتهم المقاتلون، وضباطهم المسيرون المخططون للحرب والقتال.
ويوشك بعد أن أطلق سراح هؤلاء واكتفى بما أخذه من الجزية، مع أنه لم يأخذها إلا بعد استشارة أصحابه كما أمره الله تعالى، ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ [آل عمران: ١٥٩]، فهو قد امتثل أمر الله وشاور أصحابه، وكان رأي أصحابه مختلفاً فقال عمر بعد ما قال له النبي ﷺ والذين معه: (ما ترون أصنع بهؤلاء الأسرى؟)، فقال عمر: اقتلهم يا رسول الله! ولا تنس ما صنعوا معك، ومع أصحابك، أي: أخرجوك من بلدك وتآمروا على قتلك وسجنك، بل سجنوك سنوات في الشعب حتى لجأت لأكل أوراق الشجر، وقتلوا أصحابك، وصدوا الناس عنك، وقالوا: إنك ساحر ومجنون، ويريد النساء، ويريد الملك والسلطان، ويريد الدنيا والجاه، وهو نبي الله المعصوم صلى الله عليه وعلى آله.
وقال له عبد الله بن رواحة: يا رسول الله! اجمع الحطب من هذا الوادي وأوقده، ثم خذهم بجسومهم وارمهم في هذه النار، فقال له العباس وهو يسمع: قطع الله رحمك.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا استشار أصحابه يكون مع أبي بكر؛ لعقله الواسع، ولحسن رأيه وتأنيه، ولمكانه من رسول الله عليه الصلاة والسلام، وذلك ما أهله لأن ينتخبه المسلمون خليفة بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وكان الخير كل الخير بعد رسول الله للمسلمين على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولو عينوا مكانه حتى عمر لذهب الإسلام.
فالحاصل: أن الصديق قال: يا رسول الله! هؤلاء قومك ولعلهم يتوبون، ولعل الله أن يخرج من أصلابهم مؤمنين مسلمين يوحدون ربهم، فخذ منهم الجزية ودعهم، فدخل النبي ﷺ الخيمة ثم عاد صباحاً وقال: الرأي رأي أبي بكر، فأخذ برأيه، وكان الأمر مبني على الشورى كما أمره ربه أن يفعل، ولكن الله كان يرى غير ذلك، وهذا غيب ولا يعلم الغيب إلا الله ومن يعلمه ذلك.
والله لم يعلم نبيه بهذا قبل، ولكنه أعطاه به درساً له ولمن يأتي بعده في معاركه الآتية، ولذلك قال الله له كلام كثيراً ثم قال: ﴿لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: ٦٨]، وما العذاب وما الكتاب السابق؟ الكتاب السابق هو ما يقوله الله في هذه الآية: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ﴾ [غافر: ٥٥]، فوعده الله بنشر دينه، وتحكمه في البحار وفي الجبال وفي القارات وفي أقاصي الأرض، وكان كتاب الله السابق أن ينصر عبده ونبيه محمداً ﷺ النصر العزيز المؤزر الساحق لأعدائه، وكأن الله يقول: لولا أنه سبق أن وعد نبيه بالوعد الحق لكان فيما أخذتم عذاب عظيماً.
وما العذاب؟ كان يمكن هؤلاء الذين تركهم وأطلق سراحهم أن يقولوا كما تقول اليوم لغة الحرب والقتال: هي معركة خسرناها وليست الحرب، فيعودون لمكة ويجددون الحرب والقتال، وينظرون في ماذا أخطأوا في المعركة، فيتداركون ذلك ثم يأتون، والناس على غاية من الحقد، ومن العداوة والشراسة، فينتقمون لرجالهم ولمن قتل منهم.
ولذلك كانت هذه موعظة من الله وإرشاد منه لما في المستقبل، أما هذه فقد عفا الله عنها، وكأنه قال للمسلمين ولرسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا دخلت معركة بعد اليوم فإياك أن تقتصر على أخذ الأسرى، وتطلق أعداء الله الذين يمكن أن يعيدوها حرباً جذعة مشتعلة النار أكثر مما كانت عليه في المعركة الأولى.
ولذلك فلغة الحروب دائماً تقول: لتهزم عدوك اصرفه عن وطنه وعن دينه، إذا أنت دخلت حرباً فابتدئ بقتل الأئمة والعلماء والأبطال والقادة؛ ليبقوا كقطيع من الأغنام الذين لا يهمك أمرهم، فلابد من القضاء على الرءوس الذين يمكن أن يعودوا برأيهم إلى معركة أشد، فإياك أن تتركهم.
هذا الذي عاتب الله فيه نبيه هل كان أمراً من الله له خالفه فيه النبي ﷺ أم لم يكن هذا؟ أي: لم يقل له الله: يا محمد! إذا دخلت حرباً وأسرت عدواً فإياك أن تطلق صراحه، وأن تأخذ منه جزية، بل عليك بقتله والقضاء على جيشه، هذا لم يكن، وبما أنه لم يكن فقد فعل النبي ﷺ باجتهاد ما يعلم أنه الأصلح والأنفع للمسلمين.
ولم يستبد النبي ﷺ برأي لنبوته وجلالته، بل جمع أصحابه واستشارهم؛ تنفيذاً لقول الله تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ [آل عمران: ١٥٩].
فالحاصل: أن هذا ذنب من الذنوب، ولكنه لا يعتبر ذنباً في صحابي ولا لولي ولا لعالم؛ لأن أصل الذنب المخالفة والعصيان، والنبي ﷺ لم يخالف أمراً أمر به من ربه، فحاشاه ومعاذ الله، ولم يعص ربه في أمر أمره به حاشاه.
ولكنه فعل فعلاً كان الأولى ألا يكون، وكان ذلك اجتهاداً منه وهو لا يعلم مراد الله فيه، وأعلمه ربه بعد ذلك به معاتباً؛ ليكون ذلك درساً لأمته ولأصحابه.