تفسير قوله تعالى: (إن الساعة لآتية لا ريب فيها)
قال تعالى: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [غافر: ٥٩].
يشيب هؤلاء المجرمون من بعد ما تعاظموا، ثم يكون أحدهم جيفة وجثة هامدة، ثم يعود تراباً كما كان، ثم تتجمع بعد ذلك خلايا بدنه وعظامه وعصبه ولحمه فيستوي إنساناً سوياً كما كان في دار الدنيا، وشك المجرمون في هذا، وشكهم جاء من نقص عقولهم وضعفها، ومن جهلهم وعدم علمهم، فعندما قالوا ما حكاه الله عنهم: ﴿مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ [يس: ٧٨] رد عليهم بقوله: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [يس: ٧٩].
وكل ذي بصيرة قبل أن يكون ذا بصر يعلم أننا موجودون ولم نكن قبل، لنقل: لم نكن قبل خمسين أو سبعين أو مائة سنة، فأين كنا؟ وأين من كان على الأرض؟ وأين أولئك الآلاف بل الملايين الذين كانوا يدخلون البيت الحرام صباحاً ومساء، وفي مواسم الحج؟ جاءوا وذهبوا، وجئنا نحن ولم نتأمل من الذي أتى بنا؟ ومن الذي خلقنا ومم خلقنا؟ إن قلت: خلقنا من تراب فهو خالق التراب، وإن قلت: من نطفة فهو خالق النطفة.
فالله خلقنا ولمن نكن نعد شيئاً في الوجود، ثم بعد ذلك أماتنا، وهو الذي يحيينا بعد موتنا وهو أقدر على عودتنا للحياة وأهون عليه، فالذي أوجدنا من عدم وهو الله سيعيدنا بعد أن كنا إلى ما كنا عليه.
فيحيينا ربنا على الحالة التي نموت عليها، ثم من دخل الجنة فإنه يدخلها ابن ثلاثة وثلاثين عاماً، على طول أبيهم آدم، وعلى جمال يوسف، فتلك أطوار ومراتب في الخلق، فالله وحده هو القادر عليها لا يقدر عليها أحد سواه.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ﴾ [غافر: ٥٩] هذه اللام للتأكيد، يؤتى بها بعد دخول (إن) على الاسم ليؤكد بها ثبوت الخبر بالنسبة للاسم، فـ (إن) التي تطلب الاسم لتنصبه والخبر لترفعه فيها معنى التأكيد، واللام إذا دخلت على الخبر يكون تأكيداً بعد تأكيد، فالساعة ستأتي يوماً ولا بد منها، وإن الصبح لناظره قريب، ففي الآية تأكيد بعد تأكيد، ويقين بعد يقين، فهي آتية لا شك فيها ولا ريب.
ولذلك من العقائد الأساسية في جميع الأديان: الإيمان بالبعث وبالحياة الثانية، وهو جزء من أصول الإيمان، فمن أنكره يعتبر كافراً لا تبقى له صلاة ولا إيمان، ومن هنا كان حديث جبريل عندما دخل على النبي عليه الصلاة والسلام في صورة إنسان جميل الشكل عطر الحالة، شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، وأخذ يسأل ما الإيمان؟ فكان الجواب النبوي: (أن تؤمن بالله، وبالقدر خيره وشره، وأن تؤمن باليوم الآخر) أي: بالحياة بعد الموت.
والقرآن مبني كله على هذه العقائد، وما الأحكام إلا أشياء جاءت بعد، وهانحن نرى أن جميع السور المكية تخلو من الأحكام، وإنما هي في قصص الأنبياء، وفي الكلام عن التوحيد، وفي حال الأمم الكافرة المشركة المكذبة، وما آل إليها أمرها، وفيها كذلك إظهار بديع خلق الله وقدرته، كخلقه للسماوات والأرض وما فيهن وما بينهن: من خلق الإنسان ذي الجرم الصغير، الذي حوى العالم الكبير ببصيرته، وبإدراكه للأمر والنهي، فخلقه الله وسواه وصوره فأحسن تصويره، فسبحان من هو على كل شيء قدير.
وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [غافر: ٥٩] أي: لا يؤمنون بالساعة ولا بيوم القيامة.
والنصارى يزعمون أنهم على دين، وقد كان ذلك قبل ظهور نبينا عليه الصلاة والسلام، وبعد ظهوره كانت خيانتهم، فأيديهم حرفت وبدلت وعبثت بالإنجيل، وانتقل الانتساب للنصرانية إلى انتساب للوثنية والشرك، ويذكرون أن عيسى رباً، وأن مريم كذلك، وصاحبة أيضاً، أو أنهم جميعاً أبناء الله، تعالى الله وتنزه سبحانه عن كل ذلك.
ثم جاء الإسلام ونسخ النصرانية لو كانت صحيحة، فكيف وقد غيرت وبدلت ونسخت؟! فهؤلاء كانوا يعتقدون من التغيير الذي غيروه أن الحياة الثانية تكون في الأرواح فقط، وأن ما ذكر في الكتب السماوية من نعيم وعذاب إنما هو أشياء روحية ونفسية لا تتعلق بالذوات، وذاك كفر وشرك، ومن اعتقد ذلك ودعا إليه من المسلمين فليس له من الإسلام إلا الاسم، والفرق الداعية لذلك من الفرق التي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنها كلها في النار، والتي في الجنة ليست إلا التي عاشت واعتقدت واهتدت بما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه، وما سوى ذلك فكلهم كفرة كذبة على الله، مؤولون ومتلاعبون بكتاب ربهم وسنة نبيهم.
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [غافر: ٥٩] أي: أكثر الناس على الشرك والكفر.
هذا نوح عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو يدعوهم إلى لا إله إلا الله، فأنكروها عليه، ولم يكلفهم بأكثر من ذلك، ومع ذلك أخبره الله تعالى بعد هذه القرون الطويلة أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، وما آمن معه إلا قليل، المقل من المفسرين قال: اثنا عشر، والمكثر قال: سبعون شخصاً، فهذه المجموعات أنقذها الله من آلاف الخلق الذين عاقبهم الله بالطوفان وأغرقهم، فلم يبق صغيرهم ولا كبيرهم، ولم يترك إنسهم ولا جنهم، ولا إنسانهم ولا حيوانهم، إلا ما ركب السفينة أو أمر نوح بإركابه.