تفسير قوله تعالى: (الله الذي جعل لكم الأرض قراراً)
ثم قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [غافر: ٦٤].
عاد الله جل جلاله فأظهر لنا وبين لنا ولفت أنظارنا ونبه عقولنا إلى أشياء صنعها رحمة بنا ومن أجلنا، فقد نكون غفلنا عنها أو لم نفكر فيها؛ لنعود إلى ربنا، ليعود الكافر للإيمان، والغافل من المؤمنين لتزول غفلته، ويعود ليقينه وقوة إيمانه.
وقوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا﴾ [غافر: ٦٤] أي: الله جل جلاله هو الذي خلق لنا الأرض وجعلها قراراً، أي: في قرار وموضع اطمئنان وإقامة، ولو جعلها جبالاً لا يصعد إليها، أو بحاراً كلها، أو أرضاً صحراء لا نبت فيها ولا رعي، ولا ما يعود بالحياة على الإنسان والدابة، فكيف نعيش؟! وإنما خلق الله بعض ذلك، ومع ذلك فقد خلق الله من يعيشون في ذلك على غاية ما يكونون من الضنك والآلام والأوجاع، ولسنوات مضت فقد كانت هذه البلاد المقدسة صحاري أو قريباً منها، وكان البدوي أو الأعرابي الساكن في الصحراء يبحث عن التمرة والتمرتين الأيام فلا يجدها، ويبحث عن شربة ماء ليملئ فيها قلته ويبلل فيها حلقه فلا يجدها، فيضطر للبحث عن ذلك الأيام ذوات العدد، وقد يكون راجلاً أو على جمل، وقد يكون على دابة ضعيفة، ثم قد يجد وقد لا يجد، فيهلك عطشاً وجوعاً.
والكثيرون ممن يسكنون جبالاً هي عشرات الآلاف ارتفاعاً إلى السماء كجبال الهملايا مثلاً، وهي مشهورة، أو جبال أطلس في المغرب، أو كشيء من جبال الدنيا العالية علواً كبيراً جداً، فإنهم لا يستطيعون المقام فيها بسهولة، ولا يكادون يستطيعون النفَس أو أخذ هواء يريح عصبهم وحياتهم، فهؤلاء يعيشون في غاية من الضنك، بحثاً عن شربة ماء، وعن لقمة من الطعام، ولكن هذا نوع من هذه الأرض وليس القاعدة، وإنما القاعدة: أن الله جعل الأرض قراراً يستطيع الإنسان فيها القيام والقعود، ويستطيع فيها التمدد والبناء، أي: بناء المدن والقرى والمتاجر، وشق الشوارع الرابطة بين المدن، فمن فعل وخلق ذلك؟ هو الله جل جلاله.
﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ [غافر: ٦٤] فجعل السماء قبة تستر ما في الأرض مما فوقنا من خلقه سبحانه، ولو بقينا بدونها فكم نائم تحت الثلج؟ وكم نائم تحت الصواعق وتحت الزعازع والرياح الهوجاء؟ فكيف يكون نومه؟ وكيف ستكون راحته؟ ولكن الله تعالى جعل لنا هذه السماء كمظلة القبة على من تحتها، ويستريح من تحتها من الهوام والحشرات ونحوها من الخلق في الأرض.
وما معنى السماء؟ الناس كلهم تحت السماء، ولكن هذه السماء قد يزول عنها هذا المعنى، فتأتيك بعض الأيام لظروف ما تكون فيها الزعازع والعواصف التي تمنع الطائرات أن تهبط أو أن تطير لمدة ساعات، ولو بقي ذلك باستمرار فلا طائرة تطير، ولا مسافر يسافر، وحتى السيارات تغلبها هذه العواصف، فقد تطير بها وقد تصدمها مع بعضها، وقد تضربها في جبل أو نحوه، ولكن الله جل جلاله تكرم علينا وتمنن لنذكره ولنعبده، ولنشكره على آلائه، فقال لنا سبحانه: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ [غافر: ٦٤] أي: جعل هذا البناء سقفاً محفوظاً كما سماه النبي عليه الصلاة والسلام، وكما ورد أولاً في القرآن الكريم، وهو كالقبة خلقه الله على هذه الطريقة حفاظاً علينا ما دمنا أحياء.


الصفحة التالية
Icon