نعمة الرزق الطيب للعباد
وقوله تعالى: ﴿وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ [غافر: ٦٤].
نرى الكثير من الدواب تعيش على النجاسات والجيف، وعلى ما لا يستطيع الإنسان أن يأكله أو يمسه، فقد يموت جوعاً ولا يمسه، ولكن نحن خلق الله لنا الطيبات، خلق لنا أنواع الطيور والدواب والمواشي: من الماعز والغنم والبقر والجمال، ومن غيرها من ذوات الأربع.
وأباح لنا من الطيور جميعها إلا تلك المفترسة، وخلق لنا الفواكه والحبوب والخضروات، وهي طيبة طاهرة، وعلمنا كيف ننضجها ونطبخها، وندخل عليها بهارات زيادة في لذتها وطيبها، وخلق لنا هذا الحب، وألهمنا إلى طيبه، وإلى طحنه وغربلته، وإلى خبزه إن كان خبزاً أو حلوى، ونحو ذلك.
فهذه الطيبات التي يتبارى المخلوقون الأحياء عليها من الذي طيبها؟ ومن الذي خلقها؟ كان الحجاج بن يوسف لا يأكل طعاماً وحده على ظلمه وجوره، بل خرج للبادية يوماً لعمل من أعماله ووجد نفسه وحده، والحرس يحرسونه من بعيد، ولما جاء وقت الغداء أراد أن يأكلوا معه، فاعتاد ألا يأكل وحده، فأطلق عسكره وجنده فجاءوا ببدوي جلس على المائدة، وأمره بغسل يده، وقال له: من أنا؟ قال: ومن أنت؟ خلق من هذا الخلق، قال: كل، ثم قال له: هل هذا الطعام طيب؟ قال: طيبته العافية، والعافية ليست منك ولا من عملك ولكنها من الله.
قال: ما رأيك بأميركم الحجاج؟ قال: ظالم غشوم، قال: ما رأيك في عبد الملك بن مروان -وكان هو الخليفة- قال: أظلم منه وأغشم منه، أراح الله البلاد والعباد منهما، قال: أتدري من أنا؟ قال: لا قال: أنا الحجاج، قال الأعرابي: أتدري من أنا؟ قال: لا، قال: أنا إنسان مصاب بالجنون مرة في اليوم، وهذا أوان الجنون، فضحك الحجاج وأكرمه وأهاداه وترك سبيله.
فالطعام طيب، ولكن الحقيقة أن الذي طيبه هي العافية، فعندما نكون في عافية فيوضع لنا طعام غير طيب ولا لذيذ فإننا نأكله في لذة وطيب، ولا حاجة أن يوضع لنا من الأطعمة ما نشتهيها عادة، وهي من ألذ ما تكون، وعند المرضى تقول: ما هذا الطعام؟ من الذي أنضجه؟ ما الذي صنعتم فيه؟ لا شيء فيه، ولكن صحة الآكل كانت متعبة، فلم يستطيع إنزاله، ولذلك المريض لا يجد شهوة، وإذا وجدها فمعناه أنه عوفي.
﴿وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ [غافر: ٦٤] هي طيبات في نفسها، وطيبها جل جلاله بالعافية، ومن الذي أكرمنا بها مدة حياتنا؟ ثم من الذي أكرمنا بالطعام الطيب الذي هو ليس نجس ولا جيفة ولا مما تستكرهه النفوس؟ هو الله جل جلاله، ولذا قال تعالى: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ﴾ [غافر: ٦٤].
أي: الذي صنع كل هذا، فجعل الأرض مستقراً ومقاماً، وجعل السماء قبة محفوظة وبناء، وصورنا فأحسن صورنا، ورزقنا من الطيبات مع العافية على أكلها، فاعل ذلك كله هو الخالق المدبر الرازق جل جلاله.
وقوله تعالى: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [غافر: ٦٤].
أي: تنزه وتعاظم وتقدس جل جلاله، فالذي صنع ذلك ليس ربكم فقط، ولكنه رب العالمين: عوالم السموات والأرض والملائكة والجن والأنس، عوالم من غاب ومن حضر، وهو رب الكل وخالقه، لا كما يزعم اليهود -عليهم لعائن الله- عندما يتكلمون عن ربهم فإنهم يقولون: رب بني إسرائيل، رب إسرائيل، وكأن ربهم إسرائيلي من الإسرائيليين وليس هو الرب المعبود رب السموات والأرض!! وأما الرب الذي يؤمن به المؤمنون فهو ربنا ورب حبيبنا وعدونا، ورب العوالم كلها منذ كانت، فهو خالقها ومدبرها جل جلاله، فتبارك الله وتنزه وتعاظم وتقدس رب العالمين، وليس ربنا فقط، وإنما كانت النسبة إلينا تشريف منه لنا سبحانه، فقال: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ﴾ [غافر: ٦٤] أي: المطعم الرازق لكم، الذي هداكم للإيمان ولاتباع محمد خاتم الأنبياء عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.


الصفحة التالية
Icon