تفسير قوله تعالى: (هو الذي يحيي ويميت)
قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [غافر: ٦٨] إن الله جل جلاله بيده الحياة والموت، وليس ذلك بيد الأصنام والأوثان والشركاء الذين يعبدون من دون الله، فإبراهيم عندما حاور النمرود وجادله ودعاه لتوحيد الله وعبادته، قال له: ﴿رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ [البقرة: ٢٥٨] فالمجنون فهم أن الحياة والموت بأن يحضر رجلين فيقتل أحدهما ويبقى الآخر، فتصور أنه أمات الأول وأحيا الآخر، فأدرك إبراهيم فهم النمرود لذلك فغير السؤال فقال: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾ [البقرة: ٢٥٨].
فالظلمة يستطيعون أن يقتلوا بعض الناس ظلماً وعدواناً، وأن يعفوا عن بعض من يريدون قتلهم فلا يقتلونهم، ولكن هذا ليس هو تفسير الإحياء والإماتة.
يحكى في التاريخ الأندلسي عن المنصور بن أبي عامر الفاتحي أنه تمرد عليه أحد رعاياه وأقام عليه ثورة، فأتت به جنوده، ورماه في السجن، وأصدر أمراً بقتله، فأخذ الورقة وكتب فيها: اقتلوه وائتوني برأسه، وسلم ذلك لكاتبه، ورأى الكاتب ذلك فقال له: إنما كتبت: أطلقوا صراحه، فأخذ الورقة ومزقها فأعاد الكتابة مرتين وثلاثاً وأربعاً، وفي كل مرة يريد أن يكتب: اقتلوه وائتوني برأسه، وإذا به يكتب: أطلقوا صراحه، فلما تكرر منه ذلك، وتأكد منه ولم يكن يشك في الكاتب، رمى الورقة وقال: الله لم يردني أن أقتله، فالله هو المحيي والمميت، أطلقوا سراحه.
وحدثت أحداث أخرى، فيذكر أن إنساناً سقط من شاهق عالٍ فلم يمت ولم يجر عليه شيء، فالله هو المحيي والمميت وليس البشر.
وعلقت مشانق لكثير من الرجال، فلما أنزلوا الجثث وإذا بجثة أو جثتين لم تمت، وحسب القانون عندهم إذا صدر الأمر على شخص بالموت شنقاً ثم شنق فلم يمت اعتبروه معدوماً ولا يقتلونه مرة ثانية، فيغير اسمه وحاله؛ لأن فلاناً حسب الأمر قد شنق، فتحدث الغرائب والعجائب في هذا الباب.
﴿هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [غافر: ٦٨] فالله المحيي والمميت، فليست الحياة والممات بيد خلق من خلق الله، بل ذلك كله لله، وهو من صنْع الله، ومن خصائص فعل الله، قال تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [غافر: ٦٨] أي: إذا سبق في قضاء الله وفي إرادته شيء فلا يحتاج فيه إلى لغوب ولا إلى تعب، وإنما يقول له: كن فيكون، فالله عنده خلق الألف كخلق الواحد فكل ذلك عليه هين، ولا يصعب عليه، ولا يكل منه ولا يمل، فهو القادر على كل شيء، فخلق السموات والأرض في ستة أيام، وهو الذي أراد ذلك، وكان في إمكانه أن يخلق كل ذلك في لحظات وفي ثواني، ولكن الله أراد ذلك.
فالموت تارة يأتي فجأة للإنسان، ويأتي الجسم القوي الذي يمتلك القنطار والقنطارين، وقد يعيش الضعيف الهزيل سنوات على هذه الحالة ولا يموت، ويموت الكثيرون بعد مرض يطول أو يقصر، وتكون النهاية الموت، ولو شاء الله موته لقضى عليه فجأة كما قضى على غيره، ولكن الله لا يسأل عما يفعل، ﴿فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [غافر: ٦٨].


الصفحة التالية
Icon