تفسير قوله تعالى: (ويريكم آياته)
قال تعالى: ﴿وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ﴾ [غافر: ٨١].
أي: يريكم آياته في الآية التي مضت في قوله تعالى: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٨].
وقد قال حبر القرآن ابن عم رسول الله ﷺ عبد الله بن عباس: ما عطف الله قوله: (ويخلق ما لا تعلمون) على أنواع المركوبات إلا وهو من جنسها.
فقال: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا﴾ [النحل: ٨] وهي زينة كذلك، أي: جمال في الدور وعلى أبواب الدور، وقال: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٨] من أنواع المراكب، ونحن قد أدركنا هذا من السيارات والبواخر والقطارات والطائرات والصواريخ، وصدق فهم ابن عباس الذي دعا له رسول الله عليه الصلاة والسلام بالعلم والفهم، فقد فهم من قوله تعالى: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٨] أنها معطوفة على أنواع المراكب من الدواب إبلاً وخيلاً وبغالاً وحميراً فتكون من أشكالها.
وهنا يقول تعالى ما يشبه ذلك، فيقول: ﴿وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾ [غافر: ٨١] أي: يرينا في مستقبل الأيام عند نزول الآية من آياته ومن بديع قدرته وإرادته ما لا يستطيعه ويقدر عليه أحد، فأخبر بالشيء الذي سيكون وألهم به خلقه وبشره قبل ذلك بألف وأربعمائة عام.
قال تعالى: ﴿وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾ [غافر: ٨١] أي: يريكم أنواع المراكب زيادة على الخيل وعلى ما ذكر في الآية السابقة من الدواب، كالسيارات والقطارات والطائرات والصواريخ والبوارج والبواخر والغواصات في البر والبحر والجو، وذاك من قدرة الله وبديع صنعه، ومعجزات القرآن التي أخبر بها الله جل جلاله وبلغها عنه رسوله ﷺ قبل أن تكون بألف وأربعمائة عام أو ما يقرب من ذلك.
وقد جاء حديث يشرح هذا ويبينه ويزيده بياناً وتفسيراً ومعرفة، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن عيسى عندما ينزل من السماء سيحج بيت الله الحرام على غير القلص) والقلص: جمع قلوص، وهي: الراحلة والناقة والجمل التي تركب في السفر، فعيسى سوف يحج على غير القلص، أي: يحج على الطائرات، وما كان الناس يعرفون قبلُ أدواتٍ للركوب إلا الإبل، ولذلك كانوا يقولون: هي سفن الصحراء، والمفسرون فسروا قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ﴾ [التكوير: ٤] وإذا النوق الحوامل عطلت فمعناه قامت القيامة، والحكم على الشيء فرع عن تصوره، فنحن نعيش الآن وقد عطلت الإبل في أرضها في الصحراء في جزيرة العرب، ولا نعرف الركوب عليها قط، فقد أصبحت كالمتاحف أو في المتاحف، وهكذا العناق في صحاري المغرب وصحاري الدنيا، فلم تعد الإبل أداة للسفر ولا للعمل ولا للرحلة، حتى الأكل قليل من يأكلها، ولكن يستفاد من أوبارها وأشعارها، فهي قد عطلت، وهذا علامة من علامات الساعة، وليست الساعة نفسها، فقد بدلت بأنواع أخرى من الأدوات المصنوعة من الحديد براً وبحراً وجواً، وهذا ما لم يكن يخطر ببال إنسان مضى وقضى.
ومثل هذه الآية والأحاديث كان أسلافنا يعجزون عن تفسيرها وشرحها؛ لأن الحكم عن الشيء فرع عن تصوره، ومن كان يخطر بباله أن يوماً من الأيام سيطير الناس على الحديد؟! وأن هذا الحديد سيحلق في الأجواء ويقطع ما بين المشرق والمغرب في بضع ساعات بعد أن كان يقطعها من قبل في سنة أو أكثر أو أقل! وهذا أيضاً يدل عليه ويؤكده بالمعنى قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لن تقوم الساعة حتى تصبح السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كساعة، والساعة كاحتراق السعفة)، فأخذوا يفسرون هذا الحديث أن البركة تفيض، وأن الوقت لن يسعَ العمل وغير ذلك، ولكن المعنى واللفظ كما قاله النبي عليه الصلاة والسلام، فما كان آباؤنا الأقربون يحجون من المغرب إلى المشرق ومن أقصى ديار الغرب إلى أقصى ديار الشرق -وقد كان الواحد منهم يحتاج إلى سنة ذهاباً وإياباً- إلا ويكتبون وصيتهم قبل أن يغادروا دورهم وبلدتهم إن ماتوا فكذا وكذا، ونحن اليوم نفطر ونتغدى بالرباط ثم نسافر بالطائرة فلا تمضي أربع ساعات إلا وقد وصلنا، والطيران نفسه يزداد قوة وسرعة يوماً بعد يوم، فمن قبل كان الحمار والفرس والجواد، وأما الآن فالطيران نفسه، وأين الطيران الأول بمحركاته الصغيرة الذي كان أشبه بالجرادة مع طيران اليوم؟! فاليوم نركب الطائرة وكأننا دخلنا إلى مدينة من المدن، ففيها المئات من الأشخاص، وفيها الأفلام والسينما، وفيها المأكل والمشرب، وفيها مكان الوضوء ومكان الاستراحة، وهي تمشي به كما تمشي بنا الأرض.
وإذا لم تكن هناك رياح فلا يكاد يشعر بها الإنسان حتى يهبط في الأرض مرة ثانية، وهل كان يخطر هذا في عقول آبائنا الأولين؟ لم يكن يخطر هذا ببال، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بكل ذلك تفصيلاً وإجمالاً.
قال تعالى: ﴿وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ﴾ [غافر: ٨١] أي: يا هؤلاء الذين أنكروا معجزات الله وقدرته وإرادته القادرة على كل شيء: أي آيات الله القديمة أو التي عاصرتموها أو كانت قبلكم أو جاءت بعدكم تستطيعون نكرانها؟ لا يفعل ذلك إلا أحمق أو أرعن قبل أن يكون كافراً جاهلاً، وهل نعيش إلا في المعجزات؟! وكل واحد يفكر في نفسه أولاً، كما قال تعالى: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: ٢١]، فيفكر من أنا؟ ولم جئت إلى هذا العالم؟ وما الذي يراد مني؟ ومن الذي أعطاني قوة البصر والسمع وهذه الحركة التي أتحرك بها؟ وما الروح؟ قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: ٨٥]، ومهما ادعى المدعون وكذب الأفاكون وأنهم علموا من العلوم والمعارف ما سبقوا به الأولين، فسلهم اليوم عن الروح، فسيرجعون رءوسهم ويرجعون بالجهل وبعدم الفهم، وهكذا في جميع العلوم الدنيوية والأخروية لا يعلمون منها إلا كما قال تعالى: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ [الروم: ٧] أي: قالوا عن جهل بالله وبقدرته وبإرادته وبرسله وبكتبه، والذي يجهلها أيوصف بعلم أو بمعرفة؟! فهم كالأنعام كما قال تعالى: ﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ [الأعراف: ١٧٩].


الصفحة التالية
Icon