تفسير قوله تعالى: (فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم)
قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون﴾ [غافر: ٨٣].
وتجد المفسرين يتكلمون على القرآن وكأن الله ما أنزله إلا على قرن أو على العرب، وتجدهم يقولون: كانت قريش وكان العرب، بل رأيت مجنوناً يجلس في باب الحرم ويقول: كان العرب فيهم وفيهم ونحن لم يكن فينا شيء، والكفرة اليوم فيهم كل ما كان في كفار الأمس، فمثلاً: الموءودة لا تزال إلى اليوم، ويومياً نقرأ في الصحف والمجلات أن هناك في أمريكاً وأوروبا والهند واليابان من يقتلون أطفالهم بعد ولادتهم، وذلك بعشرات الآلاف من الملايين كل سنة، والعرب لم يعد يفعل أحد منهم هذا، فنسبة هذا للعرب أو للعجم فقط جهل.
والقرآن كان الكثير من آياته سبب ورودها فلان وفلان، ولكن ذلك السبب لم يكن هو المقصود فقط، بل كان سبباً ومثالاً ونموذجاً لكل كافر موجود الآن، ومن سيكون بعد، ومن سيأتي إلى يوم القيامة، ومثل هذه الآية: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾ [غافر: ٨٣] أي: جاءت رسل الله عباد الله بالبينات الواضحات والأدلة القاطعة على صدق نبوتهم ورسالتهم وحق ما جاءوا به، ففرحوا بعلمهم، وقالوا: نحن العلماء الذين نعرف ولا يعرف المسلمون، وماذا يعرف الذي يعتمد على كتاب سماوي وكتاب ديني؟! فهذه الأشياء دينية لا نتكلم عنها، فهم فرحوا بما عندهم من العلم، وماذا عندهم من العلم؟ تتكلم مع إنسان فيقول لك: أنا فيلسوف، وأنا أستاذ في الجامعة، وماذا يعرف؟ يعرف حشرة، أو طائرة طارت في الجو، أو أن هناك ما يسمى بالهيدروجين والأكسجين، ويورد من هذه الأسماء، ولم يعلم ذلك إلا عندما رأى الطائرة بالجو ولم يعلمها من قبل، وأخذ ذلك من فعل الله وصفاته، وهو ما قاله الله تعالى: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الروم: ٧] أي: يعلمون ظواهر أشياء ولا يعلمون شيئاً عن بواطنها.
ولنتفكر في هذا الجو وما فيه مما يسمونه الأثير أو الهيدروجين أو الأكسجين: من خلق ذلك فيه؟ ومن الذي جعله كذلك لتطير الطائرة؟ وهم يقولون: إن الأرض محاطة بغلاف من تجاوزه يبقى لا وزن له، ويستطيع أن يطير في الجو، وفي العالم الآن ما يسمى بالأقمار الصناعية، يستخبرون بها، ويجعلون فيها الكثير من الأشياء المدنية والعسكرية، وإذا وصلت إلى هذا المكان ودفعت فيه فإنها تبقى عائمة كعوم الأرض والسماء في الجو، فمن حملها غير الله؟ وهم لا يفكرون في هذا الحال، وإنما يفكرون في تلك الأشياء التي خلقها الخالق، فيفكرون في الأسباب ولا يفكرون في المسبب جل جلاله وعز مقامه.
قال تعالى: ﴿فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾ [غافر: ٨٣] أي قالوا: نحن الذين نعلم وندرك وأما أنتم فماذا تعلمون؟ وقد سمعنا من يدعي أنه أعلم من فلان، وأنه من أبناء العلماء، ويقول: ماذا في الفقه والشريعة: كيف أتوضأ وأستنجي وأستجمر؟! وهذا كلام لا يقوله إلا مرتد كافر.
والقرآن هو كلام الله، وفيه علوم الإسلام، يقول تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨]، ففيه علم السماء، وعلم الأرض، وعلم جميع العلوم، وعلم الأولين والآخرين، والعلم الذي جهلوه ولا يعلمونه كعلم الخلق والأمر والآخرة، وعلم ما كان وما يكون وما سيكون.
قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾ [غافر: ٨٣] فقالوا ويقولون: ألا ينبغي أن نغير التفاسير بما يناسب العصر، ويقصدون بالعصر الكفر، وهل اليهودية والنصرانية هي العصر أم نحن؟ والعصر لا يتغير، وإنما نحن الذين نتغير، فالسماء هي السماء منذ كان آدم، والأرض هي الأرض، والشمس هي الشمس، والقمر هو القمر، ولكن الإنسان هو الذي يتغير، أنحن عبيد لهذا الإنسان فإذا كفر كفرنا، وإذا تهود تهودنا؟! فما فائدة الرسل إذاً إذا كنا سنتبع كل كافر في عصرنا ونكون إمعة، فإن أصابوا أصبنا، وإن أخطأوا أخطأنا؟ وهذا لا يفعله إنسان له مسكة من العقل والفهم والإدراك.
قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون﴾ [غافر: ٨٣] أي: نزل بهم وأحاط بهم ما كانوا به يستهزئون، وهزؤهم تكذيبهم بالرسل وبعلوم الإسلام والحق والمعارف، فحاق بهم وأحاط، وأذلهم ودمرهم، وكان سبب هلاكهم وضلال عقولهم وقلوبهم وظلمهم.