تفسير قوله تعالى: (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا)
قال تعالى: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾ [غافر: ٨٥].
يقول تعالى جل جلاله: ﴿لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ [غافر: ٨٥] أي: لما رأوا البأس والعقاب والدمار لم يكن ينفعهم إيمانهم ولا يقبل منهم، فلا توبة ولا إيمان ولا عمل صالح، ولهذا ليس هناك بعد الموت عمل ولا تكليف ولا طاعة، فالطاعة يجب أن تكون قبل الموت، وكذلك الإيمان والعمل الصالح، وأما بعد وقوع العذاب ووصول الروح إلى الغرغرة فلا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل.
قال تعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ﴾ [غافر: ٨٥] وسنته: عادته ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ [فاطر: ٤٣].
وعادة الله في خلقه أنه لم يكن يقبل من الأمم السابقة أن تؤمن بعد الموت، ولا أن تؤمن وقد وصلت الروح إلى الحلقوم، ولم يفعل ذلك، والله قص علينا قصة فرعون فقال: ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس: ٩٠]، فقال الله له: ﴿آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً﴾ [يونس: ٩١ - ٩٢]، فلم يقبل الله إيمانه ولا إسلامه، وقال له: هل آمنت الآن وقد أصبح الإيمان شهوداً عياناً، وقد كنت من قبل مفسداً طاغياً متألهاً جباراً؟ وهكذا سنة الله في الأمم السابقة قبل فرعون وبعده، وإلى اليوم وإلى قيام الساعة، فلابد من الإيمان والإنسان حي، ولذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يحضنا ويحثنا بأن نتدارك حياتنا قبل موتنا، وشبابنا قبل شيخوختنا، وقوتنا قبل ضعفنا، وفراغنا قبل شغلنا، وأما إذا فات الوقت فهيهات، وكما يقول أصحاب الرقائق والآداب والحقائق: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.
قال تعالى: ﴿وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾ [غافر: ٨٥] (هنالك) أي: يوم القيامة والعرض على الله، وهو يوم ﴿لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ﴾ [الأنعام: ١٥٨]، ويوم يحاول الكفار أن يؤمنوا ويسلموا وأن يكفروا بشركهم، وبما كانوا يفعلونه في دار الدنيا، وهيهاتَ هيهات أن يقبل ذلك، وهنالك يوم العرض على الله ويوم القيامة ويوم الساعة يخسر الكافرون الذين كفروا بالله رباً واحداً، وكفروا بنبيه عبداً ورسولاً وخاتماً للأنبياء، وكفروا بكتب الله، فلم تنفعهم الدنيا وما عليها ليفتدوا بها، وماذا يصنع الناس بالذهب وبالفضة يوم القيامة؟ فمن هو في الجنة فهو في غنى عنهما، ومن هو في النار لو أخذه لذاب واحترق به، ولأصبح عذاباً من عذابهم، وبهذا نكون -ولله الحمد- قد ختمنا سورة غافر، سورة المؤمن، وهي أول سورة في الحواميم.