تفسير قوله تعالى: (تنزيل من الرحمن الرحيم)
﴿تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [فصلت: ٢].
أي: هذا الكتاب المنطوق به المكون من مثل حروفكم هو تنزيل من الرحمن الرحيم، أنزله الله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، نزل به الروح الأمين على قلبه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو تنزيل من الرحمن الرحيم، أي: من الله الكريم، وليس هو قول محمد ﷺ ولا قول أحد من الخلق، فهو ﷺ لبث فيهم عمراً من دهره ومن حياته، وكان أميّاً لا يقرأ ولا يكتب، فمن أين له هذه العلوم والمعارف التي تجاوز بها علوم الأولين والآخرين؟ وكما قال العارف: كفاك بالعلم في الأميّ معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم فقد عاش أربعين سنة بين قومه وكلهم أميون، وكلهم لا يحسبون ولا يكتبون وهو منهم، ثم جاءه جبريل روح الله في غار حراء وقال له: اقرأ، فقال: (ما أنا بقارئ؟)، فأخذه وضمه إليه أولاً وثانياً وثالثاً وهو يقول: (ما أنا بقارئ؟)، أي: أنا أمي، فقال: اقرأ ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: ١] ومن يومئذ ألهم الله تعالى نبيه وخاتم أنبيائه صلى الله عليه وسلم، وأوحى إليه من العلوم والمعارف ما لم يسبقه فيها أحد منذ آدم أبي البشر إلى عصره، وما أعلم منه إلا الله جل جلاله، فلقد أحاط بعلوم الأولين والآخرين.
وقد خطب ﷺ يوماً في مسجده النبوي في المدينة المنورة خطبة ابتدأها عقب صلاة الصبح ولم ينهها إلا عند صلاة المغرب، فلما أذّن الظهر نزل فصلى ثم صعد المنبر، ولما أذّن العصر نزل فصلى ثم صعد المنبر، وبقي إلى أذان المغرب، وقد ذكر في هذه الخطبة التي استمرت أكثر من عشر ساعات ما كان وما يكون من بدء الخلق من يوم خلق السماوات والأرض، وتكلّم على خلق الدنيا وخلق بني آدم والخلائق وما كان من الأنبياء وأممهم إلى حياته، وتكلم على ما بعده إلى يوم القيامة والحشر والنشر، وتكلم على الجنة ومن يدخلها وعلى النار ومن يدخلها.
وقد قال الرواة الذين حضروا هذه الخطبة وهم العشرات من الصحابة منهم عمر وعلي وحذيفة بن اليمان وأبو هريرة وغيرهم: (حدثنا رسول الله ﷺ بكل ما كان وما يكون إلى قيام الساعة، ما من قائد فتنة ومعه رجل أو رجلان إلا وحدثنا باسمه واسم أبيه ونسبه والوقت الذي سيظهر فيه، ما من طائر يطير في السماء إلا وذكر لنا منه علماً، ولكن أعلمنا أحفظنا).
وقال حذيفة: إني أنسى الشيء زمناً ثم أراه كما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام، فأتذكّر قوله وكلامه، فأذكر أن النبي عليه الصلاة والسلام كان قد حدّثنا عن ذلك يوماً.
قوله: ﴿تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [فصلت: ٢]، أي: هذا القرآن تنزيل من الله الرحمن الرحيم، وليس كما زعم الكفرة الفجرة غير البررة بأن هذا القرآن من صنع بشر، وقد تمالأ عليه أقوام آخرون، بل هو وحي الله وكلامه أرسل به جبريل روح الله إلى قلب خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.