تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات)
قال تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا﴾ [مريم: ٧٣].
ينزل الله جل جلاله آياته البينات ومعجزاته الواضحات وعلامات قدرته على الخلق، والإيجاد مما لا يستطيعه إلا هو جل جلاله وعز مقامه، ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾ [مريم: ٧٣] أي: إذا تتلى على الناس قصص الأنبياء، وقدرات الله تعالى على الخلق والإيجاد بما يعجز عنه الناس.
قوله: ﴿بَيِّنَاتٍ﴾ [مريم: ٧٣] أي: واضحات معروفات لا ينكرها إلا أعمى البصيرة قبل أن يكون أعمى البصر، فعندما يحدث ذلك في دار الدنيا يقول الذين كفروا للذين آمنوا: ﴿أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا﴾ [مريم: ٧٣] أي: فريق الكفر وفريق الإيمان أيهما أحسن مقاماً؟ والمقام: هو المنزل، والندي: هو المجلس، فهؤلاء السخفاء يظنون أنهم الأفضل؛ لأنهم أغنى من المؤمنين، وأكثر رفاهية، وأوسع دوراً، وأعظم قصوراً، وأحسن مجلساً، وأما الفقير المسكين فقد قال صلى الله عليه وسلم: (رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره)، فهؤلاء الطغاة والأغنياء والعتاة والمرفهون يجلسون مجالسهم في دار الدنيا بالحرام وأكل السحت، وأخذ أموال الناس ظلماً وعدواناً في الأرض، ويقولون للمؤمنين: انظروا أينا خير مقاماً؟ أنحن في بهاء وجوهنا، وجمال قصورنا، وسعة مرافقها؟ أم أنتم في ضيق عيشكم ومساكنكم التي لا تكاد تظلكم ولا تكاد تئويكم؟ ويقال عن المجلس: النادي.
وكان قصي جد النبي ﷺ قد بنى مجلساً وأسسه في مكان الصفا والمروة، وكان يجلس فيه مع كبار قريش والعرب عندما يفدون للعمرة أو الحج إلى مكة المكرمة، وكانت تسمى دار الندوة إلى أن أدخلت في المسجد، فكان نادي حفيده المصطفى ﷺ أعلى شأناً من ناديه، فقد كان نادي قصي في شئون الدنيا، وكان نادي رسول الله بيت الله الحرام وبيوت الله بنيت للقيام فيها والركوع والطواف والسعي، والقيام بكل خير لصالح الإسلام والمسلمين، فضم النادي الأول إلى النادي الجديد وأصبح جزءاً من بيت الله الحرام.
فقوله تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا﴾ [مريم: ٧٣] يعني: أي الفريقين أعلى منزلة: فريقهم الكافر، أو فريق المؤمنين الصالح؟ وهكذا ضحكوا على أنفسهم، واستدرجوا بذلك استدراجاً، ومن الذي ملكهم إياه ونفعهم به؟ فبدلاً من أن يجعلوه سبباً للشكر والإيمان والحمد على النعم جعلوه زيادة في الكفر والمعصية.
ويسخر الله منهم ويقول: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا﴾ [مريم: ٧٤].
فهؤلاء السخفاء قد سبق قبلهم من الأمم الضالة والعشائر الكافرة من كانوا أقوى سلطاناً، وأعظم مكاناً وقصوراً، وأوسع مرافق، وأجمل ندياً، ومع ذلك عندما كفروا وطغوا عاقبهم الله جل جلاله بالهلاك والدمار واللعنة والغضب، ونزع عنهم كل ذلك، وأورثه الذين جاءوا بعدهم من المؤمنين والمؤمنات، وعوضهم عن كل ذلك السعير والنار الدائمة المقيمة، ولعنة الله المحيطة بهم من كل جانب.
قال تعالى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ﴾ [مريم: ٧٤] القرن يطلق على الزمان وعلى أهله، فيطلق على الفئة التي عاشت خلال مائة عام، والعصر الذي دام مائة عام، والكلمتان متلازمتين، فلا يأتي زمن إلا وله أهله، والزمن ملازماً لحياتهم ووجودهم، فالمآل واحد.
قال تعالى: ﴿هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا﴾ [مريم: ٧٤] أي: أحسن رئاسةً ولباساً وزينة وفرشاً، فهم أحسن في كل ما يزين القصور ويعلي شأنها أمام أهل الدنيا، فهؤلاء لا يعبدون إلا الدينار والدرهم.
الرئي: المرأى، أي: أحسن جمالاً ورؤية وصباحة وأشب أجساماً، وأطول قامات.