تفسير قوله تعالى: (فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات)
قال تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ﴾ [فصلت: ١٦].
قال تعالى: إنهم بعد أن أنذرناهم وتوعدناهم وأمهلناهم وأرسلنا لهم رسلاً من بين أيديهم ومن خلفهم يدعونهم إلى عبادة الله وحده وترك الأصنام، أخذوا يتعاظمون بأجسامهم وبقوتهم ويقولون: نحن أقوياء وبدناء ونحن ونحن، فقال لهم الله: هل أنتم أشد قوة من خالقكم الذي قواكم وجعل لكم هذه الجسوم؟ فكانوا مع هذا جاحدين كافرين بآيات الله وقدرته وما أرسل به رسله، والله يمهل ولا يهمل، ثم حلت عليهم كلمة الله وعذابه قال تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ﴾ [فصلت: ١٦].
وقد كانت سبعة أيام حسوماً، ابتدأت في الأربعاء وانتهت في الأربعاء، وكانت في آخر شهر شوال وكان ابتداؤها قبل ذلك، فقد كانت تأتيهم الرياح والعواصف وليس معها مطر، وإذا أراد الله بقوم خيراً أمطرهم وأغاثهم وأقل رياحهم، وإذا أراد بهم بلاء أكثر رياحهم وعواصفهم وأقل غيثهم وأمطارهم، فجاءتهم الريح العقيم، وهي الريح التي ليست فيها أمطار ولا غيث فيها ولا كسب منها، فهي عقيم لا تلد ولا توجد ماء ولا تنتج غيثاً، فانتشرت الحرائق والجدب والموت والجوع إلى الأيام النحسات المشئومات السبع التي كانت حاسمة بالقضاء عليهم.
ثم جاءتهم رياح عاصفة، كما قال تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا﴾ [فصلت: ١٦]، أي: ذات صوت كالرعد وذات برد شديد.
وهو من الصر وهو: البرد الشديد، ومن الصرصر وهو: الصوت المرعب المزعج الذي تكاد طبلة الأذن أن تنفجر منه، وكل هذا قد حصل فسلط الله عليهم خلال أسبوع وثمانية أيام ريحاً عقيماً ذات برد وحر شديدين وصوت كالرعد زلزلتهم من تحت أرجلهم ومن فوق رءوسهم حتى أصبحوا صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، كما وصفهم ربنا في آية أخرى.
ولم تمض هذه الأيام الثمانية إلا وقد أصبحوا كجذوع الأشجار عندما يأتيها الجدب والقحط والنار، أي: لم يبق فيها ورق ولا فاكهة ولا ثمر، وإنما هي جذوع وغصون محترقة لا تنفع في فاكهة ولا في حطب، قال تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ﴾ [الحاقة: ٧]، أي: كعجز النخل الخاوي الذي ليس فيه جمار ولا فائدة يستفاد منها.
وقوله تعالى: ﴿فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ﴾ [فصلت: ١٦] جمع نحس، أي: أيام ذات بلاء مشئوم ومصائب وذل وهوان، فلم تفدهم هذه الأجسام الطويلة والقوة التي تاهوا بها واستكبروا فيها بغير حق في الأرض.
وقوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ﴾ [فصلت: ١٦]، قرئ: نحِسات، ونحْسات.
قوله: ﴿لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [فصلت: ١٦].
أي: ليصيبهم ويعذبهم بالعذاب الذي أخزاهم، وذلك شأن المتعاظم المتكبر على الله الذي يرى لنفسه ميزة وشأناً، فإنه عندما يذل ويتصاغر ويحتقر ويضيع جاهه وسلطانه ودعواه في القوم، يشعر بالهون وبالذل وبالخزي، وهم قد أخزاهم الله وأذلهم أمام البشر والأمم من جيرانهم من سكان الأرض، وأمام المؤمنين -على قلتهم- الذين آمنوا بهود وانتفعوا بنبوته ورسالته وهدايته.
وقوله تعالى: ﴿لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ﴾ [فصلت: ١٦]، أي: هذا خزي وعذاب الدنيا، أما خزي وعذاب الآخرة فهو أشد خزياً ونكالاً وعذاباً.
وخطاب الله هذا هو خطاب لكل إنسان سمع هذه الدعوة الإلهية من رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، سواء كانت في عصره أو بعده إلى عصرنا وإلى من بعدنا إلى يوم القيامة، فكل من لم يؤمن بالله وبرسالة القرآن وبرسالة نبيه عليه الصلاة والسلام، بل يُعرض إعراض عاد وثمود؛ فله من الخزي ومن الذل ومن الهوان ما قصه الله علينا في هذه الآيات وغيرها.
وهو ما ذكر ذلك إلا للعظة وللعبرة وللتأديب وللتربية؛ ومن الخزي الذي أصابنا -نحن المسلمين- في عصرنا عندما تركنا كتاب الله ورسالة نبينا عليه الصلاة والسلام وجرينا خلف اليهود والنصارى والمنافقين نعترف بعلومهم وبحضارتهم وتركنا الإسلام والقرآن والقيادة المحمدية؛ أن سلّط الله علينا أذل خلقه وأحقرهم وألعنهم، وهم اليهود إخوة القردة والخنازير وعبدة الطاغوت، ولن يرفع الله عنا هذا الخزي إلا بعد أن نعود إليه تائبين ضارعين مستغفرين، وهذا مما وعظنا به ولم نتعظ.
وقد سبقنا إلى هذا أجيال من قبلنا، فهم الذين مهدوا لهذا وما بعده، ونحن لسنا إلا اتباعاً لحاقاً بهم، وفي العادة أن اللاحق يزيد على من سبقه، هكذا يقع التباري بالكفر بالله وبرسل الله، فيقع عليهم عذاب الله المخزي كما وقع للأولين عندما خالفوه وعصوه كخلافنا ومعصيتنا؛ قال تعالى: ﴿وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ﴾ [فصلت: ١٦]، أي: أشد خزياً وعذاباً، ولن ينصرهم أحد كما لم ينصروا في دار الدنيا، فإذا كانوا في دار الدنيا لم ينصروا ولم يجدوا من ينصرهم ولا يفزع لهم ولا يهتم بهم، فكيف في الآخرة؟ فإنهم في الآخرة سيشتد عذابهم وخزيهم، ولن يجدوا لهم نصيراً كما لم يجدوه في دار الدنيا.


الصفحة التالية
Icon