تفسير قوله تعالى: (وقيضنا لهم قرناء)
قال تعالى: ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ﴾ [فصلت: ٢٥].
يذكر الله تعالى أنه هيأ وأعد لهؤلاء الكافرين قرناء سوء وباطل قارنوهم وصاحبوهم وعاشروهم.
((فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم)) فزينوا لهم ما بين أيديهم من شئون الدنيا وجعلوها زينة بين أعينهم، وجعلوها مآلهم وعزّهم ومكان نجاتهم.
وزينوا لهم ما خلفهم وما سيأتي بعد موتهم، فزينوا لهم الكفر والضلال والبعد عن الإيمان وأنه لا جنة ولا نار، وما هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع وما يهلكهم إلا الدهر، وزعموا ذلك وأعلنوه وكانوا الأئمة والقادة فيه، مثل ملاحدة العصر الذين يصفون أنفسهم بالتقدمية والتجددية وما هم إلا إخوان الشياطين، فقد عادوا للكفر والإلحاد والشرك السابق، ونبشوا على الأولين التراب وبعثوهم من قبورهم ومن جثثهم البالية النتنة، واستمسكوا بدينهم وبأخلاقهم وبأديانهم، ورضوا بالذل والهوان وعقوبة الدنيا والآخرة.
ومن هنا كان من سعادة الإنسان أن يكون قرينه صالحاً، ومن شقاوته أن يقارن فاسداً، وقديماً قال الحكيم العربي: قل لي من تصاحب أقل لك من أنت.
فإن هو صاحب شريرين وكفاراً ومنافقين كان منهم، ومن أحب قوماً ذُكر معهم، وإن صاحب صالحين ومؤمنين وأتقياء كان منهم، وحب الصالحين يدعك أن تكون معهم، وحب الكافرين يدعك أن تكون معهم.
وقد ورد في الآثار وفي الحكم العربية شعراً ونثراً الحث على مقارنة الأفاضل وأهل التقوى والعلم والصلاح ممن يدلك على الله حاله، ويهديك إليه مقاله، وتكون أقواله لك هداية ودلالة على الخير، وحاله لك أسوة طيبة وقدوة صالحة؛ حتى تقارن أمثاله.
ولكن هؤلاء رأوا الصالح والطالح فمالوا إلى الطالح؛ لأنهم وجدوا مشابهة بين أنفسهم وأنفس أولئك، وقديماً قالت الأمثال العربية: إن الطيور على أمثالها تقع.
فالصالح إذا جالس كافراً أو منافقاً تجد نفسه في غاية ما تكون من الضيق، والكافر بالعكس إذا جالس صالحاً تضيق نفسه وتكاد تخرج من جوانحه، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف).
والله عند نثره لذرية آدم من ظهره في الأزل قال لهم: ألست بربكم؟ فأجاب الكل مطيعين وكارهين: بلى أنت ربنا، فمن قالها مطيعاً غير مكره كان من أصحاب الجنة، ومن المؤمنين عندما يخرج جسده وذاته إلى الدنيا، ومن قالها مكرهاً كان من أهل الكفر والفساد، وعندما يخرج جسده إلى الدنيا سيكون مع الكافرين.
والأرواح الصالحة يحن بعضها إلى بعض في دار الدنيا، والأرواح الخبيثة يحن بعضها إلى بعض في دار الدنيا أيضاً، ومن هنا إذا أردت أن تبحث عن منزلة إنسان وما مقامه إذا استشارك إنسان في مصاهرته أو معاملته أو في أي صلة من صلات الدنيا فعوضاً عن أن تأتي وتسأله: أأنت صالح أو فاسد؟ -وهذا لا يسأله إنسان؛ لأنه لا يقول: أنا فاسد- اسأله: من أصدقاؤك؟ ومن أصهارك؟ ومن الذي تجلس إليه؟ وممن تستفيد؟ وماذا تقرأ من الكتب إن كان قارئاً؟ وما الذي درست؟ فإذا قال لك: إنه درس على اليهودي الفلاني أو النصراني الفلاني، وأنه يحب ماركس ولينين وهذه الأسماء القذرة الوسخة، ويعجبه ما يسميه بالتقدمية من أنواع الفسق والدعارة والضلال فستجده يجري خلف اليهود ويشيد بهم ويعتز بهم ويذكر شأنهم ويعليهم حتى على مقام الصالحين من المؤمنين والمسلمين.
وإذا اجتمعت بآخر وقلت له: من جلّاسك؟ ومن قرناؤك؟ ومن تخالط وتعاشر؟ فإذا قال لك: أحضر درس التفسير والحديث، وألازم الصلوات في المساجد، وإذا خرجت من بلدي أُلازم تلاوة الكتاب الذي كنت أتلوه في بيتي وفي مقامي، ويُعجبني في التاريخ ذاك العالم والصائم والعارف بالله، فإنك تعلم أنه من أهل الخير.
والمربي سواء كان أباً أو معلماً أو وصياً على أيتام أو محجور عليهم إن كان رجلاً صالحاً يبعد هؤلاء عن معاشرة أهل الفساد، ويراقب أولاده وتلاميذه ويدعوهم إلى الله، وينصحهم: لا تعاشروا فلاناً ولا تجالسوا فلاناً، واذهبوا إلى فلان، واقبلوا الحكمة من فلان، والزموا عمل كذا واقرءوا الكتاب الفلاني، ولا تنظروا إلى الجرائد والمجلات إلا لجريدة أو المجلة الفلانية التي فيها صالحون، فيميلهم إلى الصالحين، وهكذا يحثهم على قرناء الخير ويبعدهم عن قرناء الشر؛ لأن هؤلاء القرناء هم الذين سيقودونه إلى الخير أو الشر.
ومن هنا لما كان العرب في الجاهلية قرناء لـ أبي جهل وأبي لهب وعتبة وعتيبة ابنا ربيعة وأمثالهم كان إمامهم الشيطان ومآلهم إلى النيران.
وعندما برز سيد البشر وخاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام فمن انضم إليه وكان من جلّاسه ومن أصحابه الذين أخذوا عنه الحكمة والإسلام ودانوا بدينه وتخلقوا بأخلاقه وتبعوا طريقته كان من حزب الرحمن، وأصبح أولئك الأولون حزب الشيطان.
وعندما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام فرق الكفر من اليهود والنصارى وأدعياء الإسلام قال عن فرقة واحدة: هي من أهل الجنة، فقيل: (يا رسول الله! وما هي؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي).
ومن هنا قال ربنا جل جلاله: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: ٢١].
وقال ربنا: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٨٥].
وقال ربنا جل جلاله: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾ [آل عمران: ١٩]، وما سوى ذلك هراء في هراء وسخط في سخط وباطل في باطل، وسواء ورثته عن أبيك أو حميمك أو أستاذك أو قرينك فكل هؤلاء الذين يدعون إلى الشيطان وإلى الباطل فابتعد عنهم إن أردت لنفسك خيراً وجنة ونجاحاً بعد موتك، وأما من يريد الشر والبلاء فسيتبع الشيطان وحزبه.
قال تعالى: ((وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ)) وقرناء: جمع قرين، يقال في الجمع: قرناء وأقران، قرينك هو الذي يقرن وجوده وشبحه وروحه وعمله وسلوكه معك، فيفعل فعلك وتفعل فعله، فيكون قريناً لك في العقيدة والأخلاق والسلوك والمعاملة؛ فإن كان القرين رجلاً صالحاً فأنت من أهل الصلاح، وإن كان رجلاً سيئاً فأنت من رجال السوء.
ومن هنا كان الحب في الله والبغض في الله من الإيمان، وقال عليه الصلاة والسلام: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظله وذكر من السبعة: رجلان تحابا في الله اجتمعا عليها وتفرقا عليه).
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الجنة درجات ما بين كل درجة ودرجة ما بين كل سماء وسماء، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وأعلى درجات الجنة الفردوس الأعلى، وهو مساكن الأنبياء والمرسلين) وكان في المجلس رجل من الصحابة مسكيناً لا يكاد يُعرف ولا يُهتم به، فغاب عن المجلس أياماً ثم حضر، فسأله النبي ﷺ وقد رأى عليه آثار الحزن والبؤس عن سبب غيابه، فبكى وقال: يا رسول الله! سمعتك تقول: (إن أعلى منازل الجنة الفردوس، وهي منازل الأنبياء والمرسلين ولو دخلت الجنة فكيف لي أن أكون في الفردوس؟ وجنة أدخلها ولا أراك فيها ولا أجلس إليك فيها لا حاجة لي بها.
فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: أنت مع من أحببت).
وقال صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب) فقال الصحابة إذ ذاك: بقينا سنوات وزمناً طويلاً ما سمعنا كلمة طربت لها نفوسنا وأرواحنا وكانت علينا بمثابة دخول الجنة كهذه المقولة الكريمة من النبي عليه الصلاة والسلام.
فقصير العمل يرفعه حبّه إلى منازل الصالحين بحيث يكون معهم، ومن هنا فإن النبي عليه الصلاة والسلام علّمنا في الدعوات النبوية أن نقول: (اللهم ارزقني حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك).
والحب في الله درجة عالية في الإسلام، وقد كتب إمامان بل ثلاثة عن الحب، وهم: ابن القيم كتب (روضة المحبين) وكتب قبله ابن حزم (طوق الحمامة) وكتب قبلهما أبو بكر بن أبي داود كتاب (الزهرة)، تحدثوا فيها عن الحب البشري والحب الإلهي، وانتقلوا من الحب البشري إلى الحب الإلهي، فكان الحب الإلهي هو الحب الدائم الذي يدخل الجنان ويغسل الأدران عن الأجساد، وهو الذي إذا أشربته أعضاء الإنسان وجوارحه وحواسه كان للمحبوب سميعاً مطيعاً، فإذا أحببنا الله فلابد أن نكون سميعين مطيعين لأوامره، مجتنبين تاركين لنواهيه، وإذا أحببنا رسول الله ﷺ فلابد أن نكون سميعين مطيعين لأوامره ومجتنبين تاركين لنواهيه.
وقد قال اليهود والنصارى: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨]، فزعموا أنفسهم أحباء لله، فقال الله لنبيه ﷺ أن يقول لهم: ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ﴾ [المائدة: ١٨].
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (الحبيب لا يعذّب حبيبه) فلو كانوا أحباء الله لما عذّبهم، وهم معذّبون خالدون في العذاب؛ لأن الله قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: ٤٨].
وهؤلاء الكفرة اليهود يعبدون العزير ويعبدون العجل ويعبدون مريم وعيسى ويعبدون ويعبدون، ومن كان مشركاً لا أمل له ولا رجاء يوماً من الأيام بالعفو أو بالمغفرة أو بالرحمة، فهم أهل النار خالدون فيها أبد الآباد ودهر الداهرين.
قال تعالى: ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ [فصلت: ٢٥] فأخذوا يضلونهم ويحكمون لهم كفرهم القائم الذي بين أيديهم والذي عايشهم وعاصرهم من فساد دنياهم ومن اتباع الشهوات والنزوات وفعل المنكرات والبعد عن الله وعن أ