تفسير قوله تعالى: (ومن أحسن قولاً)
قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: ٣٣].
يقول ربنا: إن رتبة الاستقامة رتبة عالية لا يصلها كافر ولا منافق ولا عاص، وهناك رتبة أعلى من ذلك وهي قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: ٣٣].
فالأول -وهو مبشّر بالفضائل والخيرات والكرامات- نفعه مقصور على نفسه، فهو قال: لا إله إلا الله لنفسه واستقام في نفسه، وأما هذا وهو الذي قال الله عنه: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: ٣٣] أي: لا أحد أحسن منه، بل هو أحسن الخلائق وأكرمها وأرفعها، وهو أرفع منزلة ومقاماً ورتبة؛ لأنه فعل الخير في نفسه وأمر به الغير، وآمن بالله في نفسه ودعا الناس إلى لله، فقال: ربي الله أولاً، واستقام ثانياً، ودعا إلى الله ثالثاً، فدعا الخلق أن يقولوا: لا إله إلا الله، وأن يطيعوا ربهم ورسولهم ﷺ ويكونوا من المؤمنين ويتبرءوا من الكافرين؛ دعاهم إلى التحلي بالأخلاق الفاضلة وترك الأخلاق السافلة.
قال تعالى: ((وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا)) فهو قد دعا الخلق إلى المعروف وفعله، ونهى عن المنكر وانتهى عنه، لا كذاك الله قال الله عنه: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ [البقرة: ٤٤]، وإنما عمل صالحاً ودعا الخلق إلى الله بلسانه وإلى تفسير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلى أن يكونوا على حاله قبل مقاله، بأن يكونوا مصلين كما هو مصل، وصائمين كما هو صائم، وأن يزكّوا أموالهم كما يزكيها، وإلى حج بيت الله الحرام كما يحج، وأن يتركوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن كما تركها.
((وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ))، أي: وصف نفسه باسم الإسلام الذي سمانا الله به، وأعداؤنا يقولون عنا: المحمديون.
ونعم فنحن محمديون أتباع محمد ﷺ ونفخر بذلك، ولكن اسمنا المسلمون، بهذا سمانا الله، ولا نسمي أنفسنا المحمديين، وإن وصفنا بذلك قلنا: نعم، وهذا شرف لنا، ولكننا مع ذلك المؤمنون، والإسلام ديننا، عليه نحيا وعليه نموت بفضل الله وكرمه.
وأما (محمديون) فلم يكن هذا الوصف لا في عهد رسول الله ﷺ ولا الصحابة ولا العصور الفاضلة ولا ما مضى، ولكن أعداء الإسلام والمسلمين أرادوا أن يجعلوها زعامة بشرية فينسبونا إلى شخص لا إلى دين، ونحن مع ذلك لا نتبرأ من هذه النسبة، بل نتشرف بها، ونزيد فنقول: نحن مسلمون وندين بالإسلام الذي أنزله الله على نبينا محمد ﷺ وأمرنا به.
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: ٣٣]،
ﷺ لا أحد، فهو استفهام تقريري، أي: هو قرار وأمر من الله بأن أحسن الرتب وأعلى منازل المؤمنين الذين آمنوا بربهم واستقاموا على طاعته، ثم بعد ذلك دعوا الناس إلى الله وعملوا الصالحات التي أمروا بها واجتنبوا المنكرات التي نهوا عنها، وأعلنوا غير وجلين ولا خائفين ولا مترددين في أوساط الكفرة أعداء الإسلام والمسلمين بأنهم مسلمون وشرفهم الإسلام وهو أكرم ما أكرمهم الله به.
وقد سئل الحسن البصري عن تفسير هذه الآية: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: ٣٣] فقال: ذاك حبيب الله وصفوته وخيرته، وهو رسوله الذي دعا إليه وآمن به وعمل الصالحات التي أمر بها عباد الله وترك المنكرات التي نهى عنها خلق الله، فذاك الذي أُمرنا بأن يكون قدوتنا وأسوتنا، كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: ٢١].
فجعل الحسن أشرف من تمسك بهذه الآية وقام بها وعمل بآدابها وبحقائقها هو صاحب الشريعة المنزل عليه هذا الكتاب الكريم المكلف ببيانه، وهو خاتم الأنبياء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ويأتي بعده من تأسى به واقتدى به وفعل ذلك، ومن هنا كان العلماء ورثة الأنبياء كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لأن وظيفتهم وعملهم وما كلّفوا به مدة حياتهم إلى لقاء الله أن يدعوا إلى الله ويبينوا كتابه ويشرحوا سنة رسوله ﷺ بقولهم وبفعلهم وبسلوكهم وبحالهم قبل مقالهم.
وقد أثنى الله على المسلمين بقوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: ١١٠] فالإسلام دين اجتماعي بالطبع، فلم يكتف الله من المؤمن أن يؤمن وينزوي ويغلق عليه داره إلا إذا خاف الفتنة وعجز عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعلة ولسبب ما، فعند ذاك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (خير رجل عند الفتن من اتبع بغنمه شعف الجبال) أي: يشرب من لبنها ويعيش من صوفها ويكف عن الناس شره ويستريحون منه، فتلك العزلة لا تكون إلا عند فساد الوقت والأمر، واختلاط الكفر بالإيمان، وعند دعوة كل ضال مضل لبدعته وكفره وفساده وضلاله.
والمؤمن والعالم والوارث المحمدي على كل اعتبار وفي كل زمن من الأعصار يفعل الخير معلناً له ويترك الشر معلناً له، ويدعو عباد الله إلى عبادة الله، ويبين لهم كتاب الله وما جاء فيه من أوامر ونواهٍ وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وما جاء فيها من أوامر ونواه؛ قال تعالى: ((وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا))، أي: قولاً وفعلاً وعبادة وأحكاماً ونشراً للمعروف وتركاً للمنكر، وأعلن معتزاً ومترفعاً بأنني من المسلمين ومن أتباع سيد الخلق وخاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.
وكما قال عليه الصلاة والسلام: (أكرم ما أُكرم به الرجل أن يكون مسلماً).
وقال: (كفى بالإسلام نعمة، كفى بالإسلام فضلاً وكرامة)، فهو يأمرنا أن نقول: الحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة، فلا نعمة أعظم وأكمل وأشرف منها.
وهي نعمة نقّى الله بها عقولنا وطهُر بها صدورنا من عبادة الأوثان والأحجار والكفرة والفسقة والمنافقين والمضلين ومن اتباعهم، فنقّى عقولنا وملأها بتوحيده وبذكره وبعبادته، وجعلنا أتباع خاتم الأنبياء وسيد الخليقة منذ خلق الله آدم وإلى آخر إنسان في الوجود، ويشرف العبد بشرف من يواليه ويتبعه، ونحن شرفنا أننا عبيد الله وشرفنا الثاني أننا من أتباع النبي الحبيب الكريم خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأكّد هذا المعنى عليه الصلاة والسلام كما في الأحاديث المتواترة المستفيضة بقوله: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل).
وأمرنا عليه الصلاة والسلام أن ننكر المنكر ونأمر بالمعروف باليد؛ حتى نأطر الناس على الحق أطراً، أي: نجبرهم عليه جبراً.
والجبر يكون باللسان أولاً، فإن امتنعوا فالبيد، فإن امتنعوا فبالسيف والعقوبة الرادعة.
والتغيير العام باليد هو للمسئولين وللدولة ولمن لهم زعامة ورئاسة وكلمة في الأمر المعروف والنهي عن المنكر فهؤلاء يغيرون ذلك باليد، وكذلك الأب في بيته والمعلم في مدرسته والمدرس في حلقته، وما عدا ذلك إن استطاع أن ينكر المنكر ويأمر بالمعروف باليد فليفعل، فإن لم يستطع فلا أقل من اللسان ويقول: ما على الرسول إلا البلاغ، فإن لم يستطع فبالقلب، كأن يخاف إذا تكلم أن يسجن أو يضرب، متهمين له بالتدخل في السياسة.
واليوم يعتبرون الإسلام والدعوة إليه سياسة؛ لأنهم محاربون للإسلام وللقرآن ولمحمد عليه الصلاة والسلام، فإذا قال: أيها الناس! أطيعوا الله ربكم ومحمداً نبيكم والقرآن كتاب ربكم؛ قالوا له: أنت تحارب الدولة في قوانينها الجائرة اليهودية وفي أحكامها الداعرة الفاسقة، ثم يقولون له: أنت رجل مشوه تتلاعب بمقدرات الدولة وسياساتها، ومن هنا أخذوا يقولون: لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، فاخترعوا ديناً وأصبح حالهم بيد الشيطان، قال تعالى: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال: ٣٠].
وعلى أساس ذلك أرادوا أن يبنوا في مكان واحد كنيسة نصرانية ومعبداً يهودياً ومسجداً مسلماً؛ ليخلطوا شعبان برمضان والأرز بالقمح والشعير، ويقولون: اليهودية والنصرانية والإسلام كلها شيء واحد، فمن آمن بواحد كان كمن آمن بالثلاثة، أي: فالمسلم كمن عبد الله الخالق وعبد المخلوق من العزير والعجل ومن مريم وعيسى ومن الأوثان والأخشاب والأصنام! وهكذا إذا سلب الله تعالى إنساناً دينه فإنه يتبع ذلك بطريقة آلية ويصبح إلى الحيوان أقرب منه للإنسان.
فقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: ٣٣]، أي: لا أحد أحسن من هذا ولا أكرم منه، فهذه أعلى الرتب للمؤمن الفاضل الداعية الذي يريد عبادة ربه في نفسه، وأن يدعو إليه أولاده وطلّابه والناس أجمعين حيث اجتمع بهم في مشرق أو مغرب، في سهل أو جبل، في حضر أو سفر.


الصفحة التالية
Icon