تفسير قوله تعالى: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ)
قال تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [فصلت: ٣٦].
إما: شرطية، و (ما) في غير القرآن زائدة، وفي القرآن صلة أتت للتأكيد.
وقوله تعالى: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ) أي: إذا وسوس لك الشيطان ودفعك وتغلب عليك بوساوسه وبنزواته وبشهواته إلى أن تقاتل أخاك وتحارب قريبك وتنقلب على ابن عمك وتعادي المسلمين، فاستعذ بالله.
وأفظع من هذا أن تحاربهم وتشهر السلاح في وجوههم، قال عليه الصلاة والسلام: (سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر)، فسباب المسلم وشتيمته فسق، وقتاله كفر، وجحود للإسلام، والله ما أوجب القتال إلا ضد الكافرين بالله أو ضد البغاة من المؤمنين المبتدعة، الذين يظلمون الناس ويأكلون أموالهم بالباطل ويشهرون السلاح في وجوههم، فهؤلاء يقاتلون قصاصاً وجزاء للسيئة بمثلها، وأما القتال أولاً فلا يكون إلا لكافر أو من فعل ما يستحق عليه القتل كالزاني المحصن وكالمرتد عن الإسلام وقاتل النفس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة) وما عدا ذلك فقتال المؤمن كفر.
قال تعالى: ((وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ)) فالله جل جلاله أعطانا دواء لنزغ الإنسان ودواء لنزغ الشيطان، فأما دواء نزغ الإنسان -الذي تراه ويراك- عند ظلمه واعتدائه أن تحسن إليه بالكلمة الطيبة وبالعطاء وبصلته وبالغض عن مساوئه، وأما الشيطان الذي لا تراه فلا يفيد معه هذا؛ لأنه طُبع على الشر، كما قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [البقرة: ١٦٨].
فقوله تعالى: ((وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ)) أي: وإما أن يوسوس لك الشيطان ويدفعك في طريق الشر عن طريق وساوسه ونزواته وشهواته، ((نَزْغٌ)) أي: إيذاء ووسوسة ودفع إلى الشر، ((فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ))، أي: قل: أعوذ بك يا رب! وأجعلك معاذي وموئلي وحصني الذي أتحصن به من هذا الشيطان الرجيم.
وتلاوة القرآن وذكر الله من أعظم ما يتحصن به في ذلك، ومن أعظم التحصن في ذلك تلاوة آية الكرسي والمعوذتين وسورة الكهف، وتلاوة القرآن في البيت تطرد الشيطان ووساوسه عن الرجل والمرأة والأولاد، والبيت الذي لا يذكر الله فيه وليس فيه صلاة ولا تلاوة ولا عبادة فهو بيت الشيطان نفسه، ولا خير في هذا البيت ولا في الصلة به ولا شراكته ولا مصاهرته ولا القرب منه، وفي مثله يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (الحب في الله والبغض في الله من الإيمان).
فإذا وسوس لك الشيطان فلا تخضع له ولا تصبر على لأوائه وعلى شره وعلى إيذائه وعلى ظلمه، بل إن شعرت به يوسوس في صدرك ويحيط بك فاستعذ بالله وقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
ولما رأى النبي ﷺ شخصين يتلاحيان -يتشاتمان- وقد غضب أحدهما غضباً إلى أن انتفخت أوداجه وتوسعت عيناه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إني لأعلم كلمة لو قالها زال ما به، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، وكان الرجل لا يزال في غضبه فقال عند رسول الله: أبي جنون؟ أي: حتى أقول ذلك! والغضب جنون.
والكثير من الناس لا صبر لهم، فتجدهم تثور أنفسهم لأقل كلمة، والنبي ﷺ كان الطبيب المداوي للنفوس والأجسام، فقد كان يأتيه الآتي فيقول: يا رسول الله! أوصني، فكان يجيب كل واحد بما يناسب مرضه البدني أو النفسي، وقد جاءه رجل فقال: (أوصني يا رسول الله! قال: لا تغضب.
فأعادها ثلاثاً فقال: لا تغضب).
وكانت علة هذا الرجل وسبب تدميره أنه لم يقبل هذه النصيحة وهذه الوصية، وهي ترك الغضب.
وهذا كثيراً ما يحدث، فقد يأتيك رجل ينتف شعره وينادي بالويل والثبور ويقول: إنه غضب وقد طلّق زوجته ثلاثاً، ويسأل: أيردها ويعيدها؟ ويقول: إنه أقسم عليها أن لا تخرج إلى بيت أمها وأبيها، ويكون في هذا خراب بيته وتشتيت أولاده وضياع تجارته، ثم يأتيك وكأنك أنت الذي تنزل الشريعة وأحكامها فيقول: أنقذني وخذ بيدي، لقد كنت في غضب شديد فقلت وقلت، ولا جواب إلا أن تتحمل نتيجة غضبك وعقوبته، وإلا فلم تغضب؟ والغضب شيطان، وهو يفسد الإنسان عن أعماله في دينه ودنياه، وقد يكفر.
وكثيراً ما تصدر من الإنسان الغضبان كلمات تعتبر ردة، مثل: أن يقول والله لو نزل الله من السماء، أو: لو جاءني محمد ﷺ لما فعلت، فيحمله الغضب على الردة والكفر وما لا يليق بالإنسان، ولو ضبط نفسه في غضبه ووجد مربياً يربيه ويرشده ويوجهه لما وصل إلى هذا البلاء.
وأنا أذكر عندما كنت في سن الشباب أنه كان هناك تجار من العامة الذين ليسوا من أهل العلم بالشريعة يلزمون العلماء ويسألونهم عن الحلال والحرام ويستفتونهم عن مشاكلهم في بيتهم مع زوجاتهم وأولادهم وفي زراعتهم وتجارتهم، واليوم استغنى كل هؤلاء فلا حاجة لهم في حلال ولا حرام ولا شريعة ولا دين.
ولو دخلت بيته وسألته عندما تحيض امرأتك ماذا تصنع؟ وإذا سهوت في الصلاة ماذا تصنع؟ وعندما تقع لك مشكلة فيها رباً أو رشوة ماذا تصنع؟ فسيجيبك جواب الحيوان: لا أعلم! بل وتجده لا يهتم بشيء إلا كيف يجمع المال من الحلال والحرام، فلا يهمه أن يعيش كافراً أو مؤمناً ولا يفكّر في هذا، ومن هنا كان فساد المجتمع وفساد الناس وتسلط الشياطين والنساء على الرجال العقلاء وعلى أهل الفضل وأهل الخير والصلاح.
والنبي ﷺ يقول عن النساء: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن)، فالرجل العاقل ذو اللب تلعب به المرأة وتضحك عليه حتى يخضع لها في كل ما تشتهي مما يجوز وما لا يجوز.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [فصلت: ٣٦].
أي: السميع لأقوالكم العليم بحالكم، فهو يسمع قول الصادق ويعلم بواطنه وما ينطق به فيسمعه ويحاسبه عليه على ما يضمره من خير أو شر، فإن كان إيماناً أحسن له، وإن كان كفراً أو نفاقاً جازاه بمقتضاه، ولا تخفى عليه خافية جل جلاله وعلا مقامه.