تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة)
قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [فصلت: ٣٩].
أي: وكذلك من آيات الله ودلائل قدرته وعلامات وحدانيته لمن ألقى السمع وهو شهيد وتدبّر كلام الله وفكّر في خلق الله ووعى عن الله هي كل ما تراه العين وتسمعه الأذن، ومن أعظمها الليل إذا أقبل بظلامه والنهار إذا أقبل بضيائه، كما قال تعالى: ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ [الحج: ٦١]، والشمس عند شروقها وغروبها، والقمر عند بزوغه منذ يكون هلالاً إلى أن يصبح قمراً إلى أن يختتم، فكل ذلك من قدرة الله ودلائل وحدانيته.
ومن آيات قدرته ودلائل وحدانيته أنك ترى الأرض خاشعة: أي: هامدة ميتة، غبراء جدباء قاحلة لا نفس عليها ولا ماء، وليس فيها ما يفيد حياً.
ومع ذلك فهذه الأرض الميتة الجدباء الخاشعة الهامدة إذا بالله الكريم يغيثها بالأمطار وينزل عليها الماء، فإذا بها بعد يوم أو يومين تهتز وتتحرك بما يدل على أن الحياة دخلت في باطنها وحركتها، كما قال تعالى: ((فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ))، أي: أخذت تتحرك وربت، أي: أخذت تربو وتعلو؛ نتيجة تلك النباتات التي سُقيت ونبتت وخرجت على ظاهر سطح الأرض بعد أن ربت وعلت، ومنه الربوة أي: الأرض العالية.
((وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى)).
وهذا المثل ضربه الله لنا ليعرفنا ويعلمنا ويطلعنا كيف يحيي الموتى، فإن الناس يتساءلون ويعجبون منه، ومنهم من يستدل بالدلائل العقلية كما ذكرها القرآن وكما آمنت بها العقول السليمة، ومنهم من بقي على جهله وعلى ضلاله، يرى ما لا يفهم ويسمع ما لا يعقل، وكأنه ميت بين الأموات، فهو أصم وأعمى لا يستفيد بسمع ولا ببصر ولا بقلب ولا يهتدي بفهم هذه الآيات الواضحات البينات.
فالله يقول لنا: يا هؤلاء الذين تريدون معرفة كيف الله يحيي الموتى! ويا هؤلاء الذين تنكرون الحياة بعد الموت وتنكرون البعث والنشور! انظروا لما يشبه ذلك، ومروا على الأرض وقت الشتاء والجدب والقحط فسترونها جدباء لا تنبت، ليس فيها زهرة ولا نبتة ولا خضرة ولا ماء، ثم إذا بالله الكريم يمطرها ويغيثها بالماء فإذا بها بعد يوم أو يومين أو أكثر قد أخذت تهتز وتتحرك؛ نتيجة الحياة التي دبّت فيها من الماء الذي جعل الله كل شيء منه حياً، ثم أخذت تربو وتعلو، نتيجة تلك الأغصان والنباتات والخضروات لما تحركت ونبتت وخرجت على سطح الأرض فرفعت معها التراب وشقّته وخرجت.
((إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا))، أي: الذي أحيا هذه الأرض الخاشعة الميتة الجدباء أليس بقادر على أن يحيي الموتى؟ بلى.
وهذه النطفة التي تنزل من الذكر تراها نطفة ميتة لا حراك فيها، وإذا بها تأخذ طريقها إلى الأرحام، ثم بعد أشهر تجد البطن يتحرك، وبعد هذه الحركة تجده قد خرج مولوداً حياً ذا عينين وشفتين، طفلاً صغيراً من الخلق ومن البشر.
فمن الذي أحيا هذه النطفة الميتة والأرض الميتة الجدباء حتى إذا دخلها الماء ونزل عليها المطر أخذت تهتز وتتحرك وتربو وتصعد؟ ((إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا)) وهو الله جل جلاله ((لَمُحْييِ الْمَوْتَى)) إذ كيف يقدر على إحياء الأرض مع كبرها وسعتها وامتدادها في القارات ويعجز عن إحياء الناس؟! والله يرشدنا ونحن لا نزال أحياء؛ لنؤمن بعقولنا وبوعينا وبفهومنا على أن الله واحد، وأنه القادر على كل شيء والخالق لكل شيء، لا شريك معه في ذات ولا في صفة ولا في فعل.
((إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) فهو قادر على إحياء الأرض فأحياها، وقادر على إحياء الإنسان بعد موته، وقادر على حياة كل ما كان ميتاً، فهو الذي أحياه أولاً وقد كان ميتاً، وهو الذي سيحييه ثانياً، كما قال تعالى: ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [يس: ٧٨ - ٧٩]، أي: أيكون قادراً على الإحياء من العدم وعلى الإيجاد من لا شيء ولا وجود ثم يعجز عن الإعادة؟! حاشا الله ومعاذ الله، فهو القادر على كل شيء، وهو المحيي المميت، ثم هو المميت المحيي جل جلاله وعز مقامه.