تفسير قوله تعالى: (وإذا أنعمنا على الإنسان)
قال تعالى: ﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ﴾ [فصلت: ٥١].
أي: إذا أنعم عليه ورزقه النعم وأكرمه بها في ذاته وفي جاهه وفي عياله وفي أولاده (أعرض ونأى بجانبه)، أي: أعرض عن طاعة الله وعن الاعتراف بوحدانيته، ونأى من النأي، أي: ابتعد عن الحق عن التوحيد وعن تصديق الأنبياء وكتب الله، وما زادته النعمة إلا بطراً وكفراً.
ومن هنا جاء الحديث النبوي: (إن لله عباداً لا يصلحهم إلا الفقر، ولو أغناهم لأفسدهم).
فهؤلاء عندما كثر مالهم وجاههم وصحت أبدانهم، فعوضاً من أن يشكروا الله ويأتوا بالصالحات جزاء إنعام الله عليهم، وازدادوا كفراً وبعداً عن الحق ونأياً عن التوحيد وإعراضاً عن الإسلام فتبين بهذا أن مال هذا كان استدرجاً وامتحاناً من الله وفتنة وابتلاء له من حيث لم يعلم.
وقد كان جزاء النعمة أن يشكر الله عليها، وقد قال ربنا: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: ٧]، فمن أنعم عليه فشكره على نعمته زاده الله منها.
وشكر النعمة كل بحسبها، فلا يكفي نعمة الأموال شكرها باللسان، بل يكون شكرها بإعطاء النفقات الواجبة عليه وإعطاء الزكاة والسائل والمحروم من الفقراء والمساكين، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (هلك المكثرون إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا)، أي: إلا من وزع المال في كل الجهات يميناً وشمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً ومن الجهات الست، وما عدا ذلك فماله وبال عليه، وخاصة إذا لم يعط منه الواجبات والفرائض ولم يقم بمن عليه نفقته.
وليست النفقة واجبة عليه بالنسبة للمرأة والأولاد فقط، بل هي واجبة عليه لمن هو محتاج من أهله، مثل: أمه وأبيه وأخته وأخيه إن كانوا محتاجين، وهكذا دواليك، والأنثى قبل الذكر، ومن هنا يقول عليه الصلاة والسلام: (أمك ثم أمك ثم أمك، ثم أباك، ثم أدناك وأدناك).
وقال صلى الله عليه وسلم: (أختك ثم أخاك)، وهكذا؛ لأن النساء أحوج إلى العطف والنفقة من الذكر، بل لا نفقة على النساء البتة، بل نفقة النساء على الرجال، فما دمن في بيوت آبائهن فالنفقة على الآباء، فإذا انتقلن إلى بيوت الأزواج فالنفقة على الأزواج، فإن ذهب الزوج ووجد الولد فالنفقة على الأولاد، وإن كان الأب لا يزال موجوداً فتعود النفقة واجبة على الأب، وهكذا تنتقل حسب الأقرب فالأقرب.
ثم قال تعالى: ((وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ))، أي: إذا مسه شر من مرض أو فقر أو ذل أو هوان -والشر كثير، أعاذنا الله وإياكم منه- فهو ذو دعاء عريض، فيقول عند ذاك: يا رب! يا رب! وعند ذاك يحاول أن يحسن إحسان المضطر، حتى إذا شافاه وعافاه عاد لكفره، وأعرض ونأى بجانبه، وقال: ﴿وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى﴾ [فصلت: ٥٠] وهذا شأن المشرك والكافر ومن لم يخالط الإسلام بشاشة قلبه.
ومن هنا كانت الرسالة المحمدية شفاء وهداية للناس، وكان القرآن هداية للضالين ونوراً وشفاء لما في الصدور من شكوك وريب وهوان، وشفاء للأجسام بعدما شفيت من الأوهام ومن الوساوس ومن الشك والريب.


الصفحة التالية
Icon