تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن كان من عند الله)
قال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ [فصلت: ٥٢].
أي: قل لهم يا محمد! من بعد المناظرة وقيام الحجة، ((أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ))، أي: إن كان هذا القرآن كلام الله حق وكان الإسلام ديناً أتى به الله وأوحى به إلى نبيه وعبده صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فكيف سيكون حالكم؟ ((مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ))، أي: من أضل من المشاقة ومن المخالف ومن شق عصا الطاعة والتوحيد والإيمان والاستسلام لله ولرسول الله ﷺ ولكتابه؟ فإذا وجد أن القرآن حق وهو حق، ووجد أن القرآن كلام الله الحق وهو كذلك؛ فكيف سيكون حاله؟ فهل هناك أضل ممن قد شق الطريق وعصا الطاعة والتوحيد فهو في شقاق بعيد، وقد أبعد في الكفر وأغرق فيه، وزاد كفراً على كفر، وأصبح كفره مضاعفاً مركباً؛ لأنه لم يبن على مجرد قول، بل بني على ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج فيها يده لم يكد يراها.
وهناك الجهل البسيط والجهل المركب.
فالجهل البسيط: أن يكون جاهلاً ويعلم نفسه جاهلاً، فإذا علم تعلم.
وهناك المشرك شركاً بسيطاً وشركاً معقداً مركباً.
فالشرك البسيط: هو أن يكون عن جهل، فإذا علمته وأفهمته وذكرت له شيئاً عن الله وعن كتابه وعن سنة رسوله ﷺ أعطاك سمعه وعينه، وأما ذاك إذا ذكرت له ذلك ازداد شركاً وكفراً وإلحاداً وأصر عليه وأتى بشبهات شياطين الجن والإنس وقال: لا آخرة ولا رسالات.
فهذا كفره مركب.
ومن كان كفره كفراً مركباً لا يكاد يرجى منه خير، ولا ترجى هدايته يوماً كبعض مشركي مكة مثلاً.
وكان عمر والرعيل الأول كذلك، ولكن كان شركهم مبنياً على دين قومهم ولم يأت بعد رسول يعلمهم ولا كتاب يفهمون عنه، فعندما جاء رسول الله ﷺ أعرضوا ما شاء الله أن يعرضوا، ثم أعطوه آذانهم، فإذا بهم يكتشفون أن هذا الكلام لا يقوله مفتر ولا كذاب ولا ساحر، وإنما هو كلام عن المصحف ومن نور المصحف، فإذا بهم يبادرون بالإسلام، فيصبحون بعد الإيمان سادة الأرض وسادة الأقوام كما كانوا سادتهم في الجاهلية.
وأما كفر أبي لهب وأبي جهل فكان كفراً مركباً، وكانا يعتقدان أن محمداً كذا وكذا، وأن الدين الحق هو ما أتى به آباؤهم وأجدادهم، وقاوموا النبي عليه الصلاة والسلام ودعوا إلى هجرانه وإلى مقاطعته وإلى قتله وإلى سجنه، وحاولوا أن يؤلبوا عليه جزيرة العرب بما فيها من يهود ونصارى فعادوا بالخذلان وبالخسران وماتوا على الكفر، ولم يهتد أحد منهم؛ لأن شركهم كان مركباً ومعقداً.
إذاً: فقول ربنا جل جلاله: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ))، أي: قل يا محمد! لهؤلاء: أن يجعلوها مناظرة واحتمالاً، فإن اكتشفوا بعد فوات الأوان يوم القيامة والبعث الذي أنكروه، ووجدوا أنك رسول الله حقاً، وأن القرآن كلام الله الحق؛ فكيف سيكون حالهم؟ فلا يوجد أضل ولا أكثر ضلالاً وغواية وظلماً ومصيبة على نفسه قبل أن يكون على غيره ممن هو في شقاق بعيد، أي: ممن كان في شقاق وفي نزاع وقد شق عصا الموحدين والمؤمنين، وأبعد في الكفر بعد أن أصبح بعيداً عن أن يكون مؤمناً يوماً!


الصفحة التالية
Icon