تفسير قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى)
قال تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: ٥].
الرحمن هو الله جل جلاله، وهو من الأسماء التي لا يليق أن يسمى بها إلا هو جل جلاله، قد نسمي مالكاً، ونسمي عزيزاً، ونسمي رءوفاً، ويكون ذلك مجازاً، ولكن اسم الجلالة الله واسم الجلالة الرحمن من خواص أسماء الله جل جلاله، لا يسمى بهما غيره، ولا يليقان بسواه.
وما العرش؟ وما الاستواء؟ العرش: خلق من خلق الله، كما في الصحاح والأحاديث المتواترة، يقول جل جلاله: (ما السموات العلى وما الأرضون السفلى أمام عظمة العرش إلا كحلقة ملقاة في صحراء من الأرض أو في فلاة من الأرض).
لا يعلم عظمه، ولا يعلم كبره، ولا يعلم كم يصل إلا خالقه جل جلاله، وقد فسر هذه الآية سلف وخلف.
أما الخلف: فزعموا أنهم يريدون بذلك أن يخضعوا قواعد التوحيد إلى الفلسفة اليونانية وإلى مذاهب علم الكلام من الأشعرية والماتريدية والمعتزلة وما إلى ذلك، فقالوا كلاماً عند فهمه وتحقيقه نخرج بأنا لا نعلم أين الله، فهم يقولون: لا في السماء ولا في الأرض، ولا خارجاً عنها، ولا داخلاً فيها، لأن كل شيء من ذلك إذا قلناه قلنا بالحيز، وذلك من صفات المخلوق.
فقلنا لهم: ما حملكم على ذلك، ألا يكفيكم ما جاء عن الله، وعن رسول الله، فنثبته كما جاء ونؤمن به كما أنزل وكما فسره صلى الله عليه وسلم؟ ويقولون عن تفسير السلف: رأي الخلف أعلم، ورأي السلف أسلم.
ونحن نقول: رأي السلف في هذا أعلم وأسلم معاً، أسلم لأننا نروي فيه آيات، ونروي فيه أحاديث، وما كان الاستدلال عليه بقال الله قال رسوله كان أعلم بالقطع واليقين، وما كان فيه آية كريمة وحديث نبوي صحيح كان أسلم عاقبة، وأسلم مسئولية، أمام السؤال في القبر، وأمام سؤال الله يوم الحشر، ويوم العرض عليه جل جلاله.
ومن هنا عندما يقال في قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: ٥]، ونقول: إن هناك رأيين وتفسيرين أحدهما: وصفه بالأعلم، والثاني: وصفه بالأسلم، نقول نحن: الرأي الذي فسره السلف أسلم عاقبة، وهو أعلم دليلاً وبرهاناً.
وقد سئل الإمام مالك رحمه الله وهو في المسجد النبوي: يا أبا عبد الله! ما معنى قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: ٥]؟ فأطرق ملياً وفكر برهة ثم التفت إلى السائل قائلاً: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عن هذا بدعة، يا شرطي أخرج هذا من مسجد رسول الله.
فاعتبره من المفسدين! وذلك لأن السلف لم يدققوا في هذا فقد فهموه بلغته العربية، وبالدلالة عليه عندما حصروا المعنى في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١]، فقالوا: لا شبيه له لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وكل ما ورد مما يشبه ذلك أو يتشابه فالله أعلم بحقيقته، وليس معناه على ظاهره، إذ الله جل جلاله لا يستوي استواء خلقه، ولا يجلس جلوس خلقه، ولكننا نقول كما قال: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: ٥]، ونعتبر التدقيق في ذلك والنبش عليه من بدع علماء الكلام.
ومن هنا كان السلف الصالح يكرهون علم الكلام، وقالوا: علم الكلام كلام بلا دليل، كلام بفلسفة تشبه الفلسفة اليونانية التي تعدم الحجة والدليل من قال الله وقال رسوله، ومن هنا كتب ابن تيمية كتاباً يذم فيه علم الكلام، وينفر عنه، وكتب بعده بأكثر من قرن السيوطي كتاباً زيفه وقبحه ونفر عنه، وكلا الكتابين مطبوعان منتشران.
والقرآن منه متشابه وغير متشابه، ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ [آل عمران: ٧].
وكقاعدة عامة سلفاً وخلفاً: لا نكاد نجد طائفة ضالة مبتدعة إلا وتحتج على بدعتها بالآيات المتشابهات، وقد قال لنا نبينا صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم من يتبع المتشابه فذلك الذي حذر الله منه).
خاصة إذا كان الاهتمام بالمتشابه قبل الاهتمام بالمحكم من الحلال والحرام، ومن القصص ومن ذكر الأنبياء، ومن ذكر الدنيا والآخرة، ومن ذكر الجنة والنار، ومن ذكر ما جرى على الضالين المكذبين، وما سيجري على الصادقين المتقين الأخيار من عباده.


الصفحة التالية
Icon