تفسير قوله تعالى: (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون)
قال تعالى: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ [الزخرف: ٤٥].
دعا النبي عليه الصلاة والسلام كفرة العرب وكفرة العجم إلى توحيد الله وعبادته، فقالوا: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف: ٢٢]، فهل أنزل بذلك كتاب قبلهم؟ وهل قال بذلك نبي قبلهم؟ فاسأل الأنبياء إن شئت: هل أرسل الله نبياً من الأنبياء بأن يُعبد غير الله، وبأن تكون هناك آلهة دون الله؟ لم يكن هذا قط، فقد أرسل الله الأنبياء كلهم بدعوة واحدة: ﴿أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: ٣٦] أمروا بعبادة الله الواحد، وأمروا الخلق جميعهم بعبادة الله الواحد.
فالوثنيات والشرك وعبادة الأصنام لم يأت بها كتاب ولا نبي وإنما هي من المخترعات والأكاذيب والأضاليل التي جاء بها الكفرة الفجرة من الأمم السابقة والأمم اللاحقة.
والله جل جلاله عندما قال: اسأل الرسل، أين سيسألهم؟ فكلهم قد ماتوا قبله إلا عيسى قد رفع إلى السماء، وليس عيسى هو كل الرسل وكل الأنبياء، ومن أجل هذا توقف عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب رضي الله عنهما في معنى هذه الآية: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ﴾ [الزخرف: ٤٥] لأن معناها: أنه يسأل أهل الكتاب من أتباع الأنبياء، هؤلاء الذين ما جاء رسول الله ﷺ إلا وهم كفرة وثنيون، فاليهود عبدوا عزيراً والنصارى عبدوا مريم وعيسى، وقالوا عن عيسى: ثالث ثلاثة، وقالوا عن أنفسهم جميعاً: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ﴾ [المائدة: ١٨] فكيف يسأل من لم يكونوا يوماً موحدين؟ إن كان المقصود آباءهم فقد انتهوا، وإن كان المقصود من عاصر أنبياءهم فقد انتهوا، فكيف يسأل من عاصروه، والله قد حكى عنهم: أنهم عبدوا عيسى وعبدوا عزيراً وعبدوا مريم وقالوا ما قاله الوثنيون قبلهم ﴿يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [التوبة: ٣٠]؟ وكيف يسأل النبي عليه الصلاة والسلام أقواماً كفرة فجرة جاء لتعليمهم وإخراجهم من باطلهم؟ تبقى الآية كما هي: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا﴾ [الزخرف: ٤٥] أي: اسأل رسلنا: هل جاءهم الوحي أو أنزلت عليهم كتب أن يجعلوا دون الرحمن آلهة يعبدون؟ فلقد سألهم رسول الله عليه الصلاة والسلام، فعندما أُسري به عليه الصلاة والسلام في ليلة الإسراء إلى بيت المقدس (المسجد الأقصى) -أعاده الله للمسلمين وطرد عنه القردة والخنازير- اجتمع عليه الأنبياء والرسل وأمره جبريل بأن يتقدمهم إماماً، ثم بلغه قول الله تعالى: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا﴾ [الزخرف: ٤٥]، هل جعل من دون الرحمن آلهة تعبد؟ وفي رواية وهي الأصح والأشهر وهي رواية جمهور المفسرين والمحققين: أن النبي عليه الصلاة والسلام عندما قال له جبريل: سل، قال: لا أسأل أحداً، أنا مطمئن بقول ربي، عالم بما قال، ولا أسأل عنه أحداً، فما أرسل ربي نبياً إلا وأمره بعبادة الله الواحد، فبذلك آمنت وبذلك اطمأن قلبي دون حاجة إلى سؤال أحد.
وقيل: إنه سألهم، ولم يصحح هذا المحققون من المفسرين.
قال صليبي في مجلس عام فيه علماء ومسئولون: أليس في كتابكم أن تسألوا أهل الذكر؟ فنحن أهل الذكر، أليس في كتابكم أن تسألوا من أرسل إليهم من قبل؟ إذاً: أنتم مأمورون في شريعتكم بأن ترجعوا إلينا وتسألونا عما أنزل علينا.
ولم يوجد في المؤتمر إلا منافقي العلماء، ومنافقي الحكام؛ لأنه لم يرد عليه قوله؛ وهكذا أصبحت الأرض مباحة لليهود يفعلون ما شاءوا، والنصارى يفعلون ما شاءوا، أما المسلمون فإذا تكلموا أو نطقوا كُذّبوا وسجنوا وقيل لهم: لا تتدخلون في السياسة، ولا سياسة في الدين، ولا سياسة في الإسلام؛ وهكذا انقلبت المفاهيم رأساً على عقب، وأصبحوا يمشون على رءوسهم بدلاً من أن يمشوا على أرجلهم، قال تعالى: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ [الزخرف: ٤٥] هل أمرنا أحداً من الخلق أو رسولاً من الرسل أن يعبد غير الرحمن؟
ﷺ لا.
وقد قال عليه الصلاة والسلام بياناً للعشرات من الآيات والسور أن الله أرسل رسله، وأمرهم أن يعبدوا الله ويجتنبوا الطاغوت، وقال نبي الله عليه الصلاة والسلام: (نحن معاشر الأنبياء أبناء علات أبونا واحد وأمهاتنا شتى)، أي: رسالتنا واحدة وكتابنا واحد ولكن دعوتنا مختلفة، والشرائع مختلفة، ولذلك فإن الله تعالى جعل العقيدة والدعوة للعبادة هي دعوة واحدة لجميع الرسل منذ آدم إلى خاتم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أما الشرائع فمختلفة، قال تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: ٤٨] والشرعة هي: القوانين والأحكام التي تتغير بتغير الزمان والمكان والأقوام والمصالح، ومن هنا كانت شريعة الإسلام خاتمة الشرائع لا رسالة بعدها، وجاءت بالاجتهاد فيما لا نص فيه، وبالاجتهاد في النصوص المحتملة خصوصاً وعموماً ومطلقاً ومقيداً.
ومن هنا كان المجتهدون في عصر رسول الله عليه الصلاة والسلام من الصحابة قد اجتهدوا في حياته، وقالوا أقوالاً اختلفوا فيها وكان المحكم في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد موته ﷺ اختلفوا تبعاً لاجتهاداتهم وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر).
وقد اجتهد رجلان من الصحابة في حياة النبي ﷺ وذلك أنهما كانا في صحراء فلم يجدا الماء فتيمما فصليا بذلك التيمم ثم وجدوا الماء فأحدهما لم يعد الصلاة والآخر توضأ وأعاد الصلاة، فالنبي عليه الصلاة والسلام جعل أجرين لمن توضأ وأعاد الصلاة، وأخبر الآخر بأنه أصاب السنة.


الصفحة التالية
Icon