تفسير قوله تعالى: (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون)
قال تعالى: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ﴾ [الزخرف: ٦٠]، سبق أن قال هؤلاء الكفار فيما مضى لنا من الآيات أنهم لا يؤمنون بمحمد نبياً ورسولاً وهو من البشر وخلق من المرأة والرجل، فلماذا لم يكن ملكاً رسولاً، أو كان معه ملك، أو جاء بجبال من ذهب، أو فجرت له جبال مكة عيوناً وأنهاراً أو جاء بقصور بما فيها من حور عين ومن فواكه وثمرات؟ فقالوا هراء من القول وزوراً من الكلام وما لا معنى له، وهل يتصف هذا القول وهذه الأماني السخيفة بالحق؟ وإنما جعل الله أنبياءه بشراً لحكمة أرادها، ولو كانوا ملائكة لكان ينبغي للناس أن يكونوا كذلك؛ لأن البشر لا يؤمنون إلا برسول يرونه ويمتثلون أمره، وإن أرادوا رؤيته على حقيقته فأنى لهم ذلك وقد غطى الأفق؟ أو تكيف على صورة إنسان مثلهم فهو كذلك، فكيف يكون حالهم إذا رأوه وقد تغير وتحول من الصورة الآدمية إلى الصورة الملائكية؟ ولكن من تمام الإكرام والإنعام على البشر أن جعل الله أنبياءهم منهم، يعلمون آباءهم وأنسابهم وأحسابهم ويفهمون عنهم ويعقلون قولهم، ويعلمون نشأتهم وتربيتهم فيطمئنون إلى سلوكهم كنبينا مثلاً عليه الصلاة والسلام، فقد عاش في قومه أربعين سنة لا يعرف فيهم إلا بالصادق الأمين، وكان موضع احترامهم وتقديرهم، ولم تصدر عنه كذبة على أحد من الناس، فكيف بعد أن بلغ الأربعين يكذب على الله ويقول ما ليس له بحق؟ هل هذا منطق عاقل أو منطق إنسان يسمع ويفهم ويعي ويدرك، يقول الله: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ﴾ [الزخرف: ٦٠] أي: لو أردنا وسبقت مشيئتنا لجعلنا منكم ملائكة، أو لغيرنا الأنبياء والرسل الآدميين إلى ملائكة، وجعلناهم في الأرض يخلف بعضهم بعضاً، أي: يذهب ملك ويأتي ملك كما يذهب نبي ويأتي نبي، فمثلاً: مات موسى وهارون وجاء من بعدهما عيسى ثم رفعه الله إليه وجاء بعده محمد عليه الصلاة والسلام، فلو شاء الله أن يجعل ذلك من الملائكة لفعل، ولكنه لو فعل لتغيرت الأمم والشعوب وأصبح القوم كلهم ملائكة وليسوا كذلك.
فالملائكة هم جند الله المكرمون المعصومون من المعصية لا يحتاجون إلى نبي أو رسول، يحتاجون إلى كبير وإلى رئيس فلهم كبراؤهم ولهم رؤساؤهم يأمرونهم بما يفعلون عن أمر الله، فصفتهم أنهم ﴿لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: ٦]، فهم ملائكة في السماء وملائكة في الأرض وملائكة عن اليمين والشمال عزين، وملائكة للجنة وملائكة للنار، والله جعل ملائكة تنزل عند الفجر فتتولى أمر ما أمرها الله به ثم تعود وتعرج إليه، فهم يتواردون عليكم بالليل والنهار، فيجدون العبد المستقيم يتلو القرآن فيعودون إلى ربهم، ويأتي من بعدهم فيجدونه يتلو القرآن أيضاً، ولمثل ذلك قال ربنا: ﴿إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ [الإسراء: ٧٨]، فيقولون: يا ربنا! وجدنا فلاناً عندما نزلنا وهو يقرأ القرآن وغادرناه وهو يقرأ القرآن وأنت به أعلم.
ولو جعل الله الأنبياء والمرسلين ملائكة لتغير وجه الأرض ولانتهت المعصية ولما كان هناك مذنب والأمر ليس كذلك، فقد جعل الله فيها برزخاً حين خلق أبانا آدم في الجنة، وبين أن الدنيا مزرعة الآخرة، فمن أحسن في الدنيا ربح الآخرة، ومن أساء في الدنيا خسر الدنيا والآخرة.


الصفحة التالية
Icon